الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الحادي والخمسون والمائة بين قاعدة الإباحة المطلقة وبين قاعدة الإباحة المنسوبة إلى سبب مخصوص )

اعلم أن الإباحة قد تثبت مطلقا فلا يكون على المكلف حرج في الإقدام على الفعل مطلقا وقد تثبت باعتبار سبب معين فلا يكون على المكلف حرج في الإقدام على ذلك الفعل من جهة ذلك السبب ويكون عليه حرج في الإقدام باعتبار سبب آخر فالتحريم يجتمع مع هذه الإباحة ولا يجتمع مع الإباحة الأولى وسر ذلك أن أسباب التحريم قد تجتمع وقد تفترق فإن اجتمع اجتمع سببان فأكثر لتحريم فارتفع أحدهما ثبتت الإباحة باعتبار ذلك السبب خاصة وبقي الفعل محرما باعتبار السبب الآخر وكذلك إذا كان له سبب واحد للتحريم فزال وخلفه سبب آخر صدقت الإباحة باعتبار السبب الأول وصدق التحريم باعتبار السبب المتجدد ولذلك نظائر كثيرة في الشريعة وبمعرفة هذا الفرق تحصل أجوبة عن أسئلة كثيرة في الفقه والنصوص وأذكر من ذلك ثلاث مسائل ( المسألة الأولى )

قوله تعالى { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } قال بعض الفضلاء مقتضى حتى التي هي حرف غاية أن يكون ما قبلها مخالفا لما بعدها ويكون ما بعدها نقيض ما قبلها ويظهر من هذه القاعدة أن تكون المرأة حلالا إذا عقد عليها زوج آخر ووطئها وليس الأمر كذلك إجماعا بل هي حرام على حالها حتى يطلقها هذا الزوج وإذا طلقها لا تحل حتى يعقد عليها الزوج الأول وإذا عقد عليها الزوج الأول لا تحل حتى تنفى موانع الوطء من الحيض والصيام والإحرام وغير ذلك من الموانع فلم يحصل مقتضى الغاية فهل هذه هي الغاية باقية على بابها مقتضية لثبوت النقيض أو هي مستثناة عن قاعدة الغايات بالإجماع

( والجواب ) أنها باقية على بابها وتقريره أنها كانت محرمة بكونها أجنبية وبكونها مطلقة ثلاثا فلما تزوجها الزوج الثاني صارت مباحة من جهة الطلاق الثلاث وزال التحريم الناشئ عنه وبقي التحريم بكونها أجنبية وتجدد سبب آخر للتحريم وهو كونها زوجة لغيره فقد خلف السبب الزائل سبب آخر وزال التحريم الكائن بسبب الطلاق الثلاث وثبت مقتضى الغاية وإذا طلقها الزوج الثاني بقيت محرمة بالعدة وهو [ ص: 132 ] سبب متجدد وبكونها أجنبية فإذا عقد عليها الزوج الأول زال التحريم بسبب كونها أجنبية وبقيت محرمة بسبب ما تجدد من حيض أو صوم أو غيرهما فإذا زال ذلك ثبتت الإباحة المطلقة وكان الثابت قبل ذلك مطلق الإباحة المطلقة وقد تقدم الفرق بين مطلق الإباحة والإباحة المطلقة فظهر أن الغاية على بابها لم تخالف مقتضاها بل هي معمول بها واندفع الإشكال عن الآية ( المسألة الثانية )

إذا ترك الصلاة وزنى وهو محصن وارتد عن الإسلام وقتل النفس التي حرم الله فهذا قد أبيح دمه بكل واحد من هذه الأسباب فإذا عفا الأولياء عن القصاص ذهبت الإباحة الناشئة عن القتل وثبتت الإباحة الناشئة عن غير ذلك من الأسباب المذكورة فالإباحة المرتفعة ههنا نظير الإباحة الحاصلة في المسألة المتقدمة وهي مطلق الإباحة المنسوبة إلى سبب معين غير أنها في المسألة الأولى حاصلة وههنا ذاهبة فتأمل ذلك ( المسألة الثالثة )

في تصوير اجتماع التحريم مضاعفا في أئمة وتعلقات الخطاب فيه وذلك أن الزنى محرم وبالبنت أشد وبها في الصوم أشد ومع الإحرام أشد وفي الكعبة أشد فهذه أربعة أسباب من التحريم اجتمعت فيكون هذا الفعل محرما من أربعة أوجه ويكون الإثم مضاعفا أربع مرات ويكون خطاب التحريم قد حصل في هذه الصور أربع تعليقات فإذا تصورت اجتماع التحريمات تصورت ارتفاع بعضها وحصول مطلق الإباحة بالنسبة إلى ذلك السبب المرتفع وتصورت أيضا اجتماع الوجوبات بتظافر أسبابها على الفعل وكذا بقية الأحكام تارة تثبت مطلقة وتارة بالنسبة إلى سبب معين فتأمل ذلك .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الحادي والخمسون والمائة بين قاعدة الإباحة المطلقة وبين قاعدة الإباحة المنسوبة إلى سبب مخصوص )

اعلم أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من إباحة أو ندب أو منع أو غيرها من أحكام التكليف فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبباتها بحيث إن الأمر بالسبب لا يستلزم الأمر بالمسبب والنهي عن السبب لا يستلزم النهي عن المسبب والتخيير في السبب لا يستلزم التخيير في المسبب مثلا الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع والأمر بالنكاح لا يستلزم الأمر بحلية البضع والأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق الروح والنهي عن القتل العدوان لا يستلزم النهي عن الإزهاق والنهي عن التردي في البئر لا يستلزم النهي عن تهتك المردي فيها والنهي عن جعل الثبوت في النار لا يستلزم النهي عن نفس الإحراق والإباحة للأجنبية بالعقد لا يستلزم إباحة وطئها والدليل على ذلك أمران

( الأول ) عقلي وهو ما ثبت في الكلام من أن الذي للمكلف تعاطي الأسباب لا المسببات لأنها من فعل الله تعالى وحكمه ولا كسب فيه للمكلف

( والثاني ) سمعي وهو أن استقراء هذا المعنى من الكتاب والسنة مقطوع به أما الكتاب فمنه ما هو عام كقوله تعالى { والله خلقكم وما تعملون } { الله خالق كل شيء } ومنه ما هو خاص كقوله تعالى { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك } وقوله تعالى { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } وقوله تعالى { وفي السماء رزقكم وما توعدون } إلى آخر الآية وقوله تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } الآية وقوله تعالى { أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } { أفرأيتم ما تحرثون } { أفرأيتم الماء الذي تشربون } { أفرأيتم النار التي تورون } وأما السنة فكقوله صلى الله عليه وسلم { لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير } الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم { قيدها وتوكل } ولا يرد أن إباحة عقود البيوع والإجارات تستلزم إباحة الانتفاع الخاص بكل واحد منها وأنه إذا تعلق بها التحريم كبيع الربا والغرر والجهالة استلزم تحريم الانتفاع المسبب عنها وأن التعدي والغصب والسرقة ونحوها والذكاة في الحيوان إذا كانت على وفق المشروع تكون [ ص: 162 ] مباحة وتستلزم إباحة الانتفاع وإذا وقعت على غير المشروع كانت ممنوعة ومستلزمة منع الانتفاع إلى غير ذلك مما هو كثير من هذا النحو لأنا نقول ما ذكر في حكم الإنفاق لا على حكم الالتزام بدليل تخلفه في بعض تلك الأمثلة ألا ترى أن كلا من النفقة على المبيع إذا كان حيوانا وحفظ الأموال المتملكة واجب ومسبب عن عقد المبيع المباح وأن الذكاة إذا وقعت في غير المأكول كالخنزير والسباع العادية والكلب ونحوها لا توصف بالتحريم مع الانتفاع إما محرم جميعها وإما محرم في بعضها ومكروه في البعض الآخر هذا في الأسباب المشروعة وأسهل منها الأسباب الممنوعة لأن معنى تحريمها أنها في الشرع ليست بأسباب فلم تكن لها مسببات فبقي المسبب عنها على أصلها من المنع لا أن المنع تسبب عن وقوع أسباب ممنوعة فثبت اطراد هذه القاعدة وينبني عليها أنه لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ولا القصد إليها بل المقصود منه الجريان تحت الأحكام الموضوعة لا غير ، أسبابا كانت أو غير أسباب معللة كانت أو غير معلة وللمكلف ترك القصد إلى المسبب وله القصد إليه باعتبار المصالح التي توجد عن السبب لأنه التفات إلى العادات الجارية وقد قال تعالى { الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله } وقال تعالى { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات } وأشباه ذلك وللالتفات إلى المسببات بالأسباب الذي هو القسم الثاني ثلاث مراتب

( إحداها ) أن يدخل فيها على أن السبب فاعل للمسبب أو مدلوله وهذا شرك أو مضاه له والعياذ بالله تعالى إذ السبب والعلة في الشرع غير فاعل بنفسه بل دليل وأمارة فلذا قال ابن العربي في الأحكام لا تمنع في الشرع أن تكون العلة عامة والحكم خاصا أو أريد من العلة . ا هـ

( والثانية ) أن يدخل في السبب على أن المسبب يكون عنده عادة كما هو الجاري على مقتضى عادة الله في خلقه وهو غالب أحوال الخلق في الدخول في الأسباب

( والثالثة ) أن يدخل في السبب على أن المسبب من الله تعالى لأنه المسبب وهذا يرجع إلى عدم اعتبار السبب في المسبب من جهة نفسه واعتباره فيه من جهة أن الله مسبب وذلك صحيح ولترك الالتفات إلى المسبب الذي هو القسم الأول ثلاث مراتب أيضا

( إحداها ) أن يدخل في السبب من حيث هو ابتلاء للعباد وامتحان لهم فإنها طريق إلى السعادة والشقاوة والآخذ لها من هذه الجهة آخذ لها من حيث وضعت مع التحقق بذلك فيها وهذا صحيح وصاحب هذا القصد متعبد لله بما تسبب به منها حينئذ تسبب بالإذن فيما أذن فيه ليظهر عبوديته لله فيه [ ص: 163 ] لا ملتفتا إلى مسبباتها وإن انجرت معها فهو كالمتسبب بسائر العبادات المحضة

( والثانية ) أن يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن الالتفات إلى المسببات بناء على أن تفريد المعبود بالعبادة أن لا يشرك معه في قصده سواه واعتمادا على أن التشريك خروج عن خالص التوحيد بالعبادة لأن بقاء الالتفات إلى ذلك كله بقاء من المحدثات وركون إلى الأعيان وهو تدقيق في نفي الشركة وهذا أيضا في موضعه صحيح

( والثالثة ) أن يدخل فيه بحكم الإذن الشرعي مجردا عن النظر في غير ذلك وإنما توجهه إلى السبب تلبية للآمر لتحقيقه بمقام العبودية وهذا شامل لجميع ما تقدم لأنه لما علم قصد الشارع في تلك الأمور توخى قصده من غير نظير في غيره فحصل له كل ما في ضمن ذلك المتسبب مما علم ومما لم يعلم فهو طالب للمسبب من طريق السبب وعالم أن الله هو المسبب وهو المبتلي به ومتحقق في صدق التوجه به إليه فقصده مطلق وإن دخل فيه قصد المسبب لكن ذلك كله منزه عن الأغيار مصفى من الأكدار على ما ذكر من أن المسببات مرتبة على فعل الأسباب شرعا وأن الشارع يعتبر المسببات في الخطاب بالأسباب ويترتب بالنسبة إلى المكلف إذا اعتبره أمور : ( منها ) أن الله عز وجل جعل المسببات في العادة تجري على وزان الأسباب في الاستقامة أو الاعوجاج فإذا كان السبب تاما والتسبب على ما ينبغي كان المسبب كذلك وبالضد ( ومنها ) أن المسببات قد تكون خاصة بمعنى أن تكون بحسب وقوع السبب كالبيع المتسبب به إلى إباحة الانتفاع بالمبيع والنكاح الذي يحصل به حلية الاستماع والذكاة التي بها يحصل حل الأكل وكالسكر الناشئ عن شرب الخمر وإزهاق الروح المسبب عن حز الرقبة وقد تكون عامة كالطاعة التي هي سبب بالفوز في النعيم والمعاصي التي هي سبب في دخول الجحيم وبالجملة فالمسبب إن كان من شأن الالتفات إليه التقوية للسبب والتكملة له والتحريض في المبالغة في إكماله فهو الذي يجلب المصلحة وإن كان من شأن الالتفات إليه أن يكر على السبب بالإبطال أو بالإضعاف أو بالتهاون به فهو الذي يجلب المفسدة وهذان القسمان على ضربين

( أحدهما ) ما شأنه ذلك بإطلاق بمعنى أنه يقوي السبب أو يضعفه بالنسبة إلى كل مكلف وبالنسبة إلى كل زمان وبالنسبة إلى كل حال يكون عليها المكلف

( والثاني ) ما شأنه ذلك لا بإطلاق بل بالنسبة إلى بعض المكلفين دون بعض أو بالنسبة إلى بعض الأزمنة دون بعض أو بالنسبة إلى بعض أحوال المكلف دون بعض فإنه ينقسم من جهة أخرى قسمين

( أحدهما ) ما يكون في التقوية والتضعيف مقطوعا به

( والثاني ) ما يكون في ذلك مظنونا [ ص: 164 ] أو مشكوكا فيه موضع نظر وتأمل فيحكم بمقتضى الظن ويوقف عند تعارض الظنون انظر الموافقات للإمام أبي إسحاق الشاطبي فإذا علمت هذا فاعلم أن الإباحة إن كانت منسوبة إلى سبب تام وتسببها عنه على ما ينبغي ثبتت به مطلقة أي من جميع الوجوه بحيث لا يجتمع معها التحريم أصلا فلا يكون على المكلف حرج في الإقدام على الفعل مطلقا وإن كانت منسوبة إلى سبب معين غير تام وسببها عنه ليس على ما ينبغي ثبتت باعتبار ذلك السبب المعين بحيث لا يكون عليه حرج في الإقدام على ذلك الفعل من جهة ذلك السبب ويكون عليه حرج في الإقدام باعتبار سبب آخر فيجتمع التحريم معها وسر ذلك أن أسباب التحريم قد يجتمع .

وقد تفترق وإن اجتمعت ولم يرتفع منها واحد ثبت التحريم مطلقا وإن ارتفعت ولم يبق منها واحد ثبتت الإباحة المطلقة وإن ارتفع من سببي التحريم أو أسبابه واحد ثبتت الإباحة باعتبار ذلك السبب المرتفع خاصة وبقي الفعل محرما باعتبار ما بقي من السببين والأسباب وكذلك إذا كان للتحريم سبب واحد فزال وخلفه سبب آخر صدقت الإباحة باعتبار زوال ذلك السبب الأول وصدق التحريم باعتبار المتجدد ولذلك نظائر كثيرة في الشريعة وبمعرفة هذا الفرق والالتفات إلى المسببات مع أسبابها تندفع إشكالات ترد في الشريعة على الفقه وعلى النصوص بسبب تعارض أحكام أسباب تقدمت مع أسباب أخر حاضرة ( منها ) أن مقتضى حتى التي هي حرف غاية أن يكون ما قبلها مخالفا لما بعدها ويكون ما بعدها نقيض ما قبلها ويظهر من هذه القاعدة أن قوله تعالى { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } يقتضي أن تكون المرأة حلالا إذا عقد عليها زوج آخر ووطئها مع أن الأمر ليس كذلك إجماعا بل هي حرام على حالها حتى يطلقها هذا الزوج .

وإذا طلقها لا تحل للأول حتى تنقضي عدتها وإذا انقضت عدتها لا تحل للأول حتى يعقد عليها وإذا عقد عليها أي الزوج الأول لا تحل حتى تنتفي موانع الوطء من الحيض والصيام والإحرام وغير ذلك فلم يحصل مقتضى الغاية وحاصل دفعه أن مقتضى الغاية قد حصل من حيث إنها قد زال تحريمها الحاصل بكونها مطلقة ثلاثا لما تزوجها الزوج الثاني إلا أنه بقي تحريمها الناشئ عن كونها أجنبية وتجدد معه سبب آخر للتحريم صار خلفا عن السبب الزائل وهو كونها زوجة لغيره وإذا طلقها الزوج الثاني زال السبب المتجدد وخلفه سبب آخر متجدد مع سبب كونها أجنبية وهو كونها في العدة وإذا كملت العدة وعقد عليها الزوج الأول زال سببا التحريم وبقيت محرمة بسبب ما تجدد من حيض أو صوم أو إحرام أو غيرها [ ص: 165 ] فإذا زال ذلك أيضا ثبتت الإباحة المطلقة وكان الثابت قبل ذلك الإباحة المنسوبة إلى سبب مخصوص فظهر أن الغاية على بابها لم تخالف مقتضاها بل هي معمول بها واندفع الإشكال عن الآية ومنها أنه قد اجتمع على المكلف الامتثال مع بقاء العصيان إما في الفعل الواحد وإما في فعل متعدد فكان عاصيا ممتثلا في حالة واحدة ومأمورا منهيا من جهة واحدة وذلك تكليف بالمحال لا يمكنه وقد قال تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فلا بد أن يكون مكلفا بالخروج والتوبة في وجه يمكنه ولا يمكن مع بقاء حكم النهي في نفس الخروج فلا بد أن يرتفع حكم النهي في الخروج وذلك في مسائل

( المسألة الأولى ) من توسط أرضا مغصوبة به ثم تاب وأراد الخروج منها قال أبو هاشم هو على حكم المعصية ولا يخرج عن ذلك إلا بانفصاله عن الأرض المغصوبة ، ورد الناس عليه قديما وحديثا

( المسألة الثانية ) من تاب عن القتل بعد رمي السهم عن القوس وقبل وصوله إلى الرمية

( المسألة الثالثة ) من تاب من بدعته بعدما بثها في الناس وقبل أخذهم بها أو بعد ذلك وقبل رجوعهم عنها

( المسألة الرابعة ) من رجع عن شهادته بعد الحكم بها وقبل الاستيفاء وبالجملة بعد تعاطي السبب على كماله وقبل تأثيره ووجود مفسدته أو بعد وجودها وقبل ارتفاعها إن أمكن ارتفاعها فقد اجتمع على المكلف هنا الامتثال مع بقاء العصيان وقد أشار الإمام في البرهان إلى تصوير هذا الاجتماع وصحته باعتبار أصل السبب الذي هو عصيان فانسحب عليه حكم التسبب وإن ارتفع بالتوبة لأن أصل التسبب أنتج مسببات خارجة عن نظره فهو وإن كان عاصيا ممتثلا هنا إلا أن الأمر والنهي لا يتواردان عليه في هذا التصوير لأنه من جهة العصيان غير مكلف به لأنه مسبب غير داخل تحت قدرته فلا نهي إذ ذاك ، ومن جهة الامتثال مكلف لأنه قادر عليه فهو مأمور بالخروج وممتثل به فلو نظر الجمهور إلى أن المسبب خارج عن نظر المكلف لم يستبعدوا اجتماع الامتثال مع استصحاب حكم المعصية إلى الانفصال عن الأرض المغصوبة بل وجدوا نفس الخروج ذا وجهين

( أحدهما ) وجه كونه سببا في الخلوص عن التعدي بالدخول في الأرض وهو من كسبه

( والثاني ) كونه نتيجة دخوله ابتداء وليس من كسبه بهذا الاعتبار إذ ليس له قدرة على الكف عنه فاتضح حينئذ معنى ما أراده الإمام وأبو هاشم وأن ما اعترض به عليهما لا يرد مع هذه الطريقة إذا تأملها أفاده الإمام أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات ( ومنها ) أن المكلف إذا ترك الصلاة وزنى وهو محصن وارتد عن الإسلام وقتل النفس التي حرم الله فقد أبيح دمه بكل واحد من هذه الأسباب فإذا [ ص: 166 ] عفا الأولياء عن القصاص ذهبت الإباحة الناشئة عن القتل وثبتت الإباحة الناشئة عن غير ذلك من الأسباب المذكورة فصار مباح الدم وغير مباحه لكن باعتبارين فتأمل ( ومنها ) اجتماع التحريم مضاعفا في أئمة ، وتعلقات الخطاب فيه بتصور من حيث إن الزنى محرم وبالبنت أشد وبها في الصوم أشد ومع الإحرام أشد وفي الكعبة أشد فيكون هذا الفعل محرما من أربعة أوجه وأنه مضاعف أربع مرات وخطاب التحريم قد حصل في هذه الصور أربع تعليقات فإذا تصورت اجتماع التحريمات تصورت ارتفاع بعضها وحصول الإباحة بالنسبة إلى ذلك السبب المرتفع مع التحريم بالنسبة لباقي الأسباب وتصورت أيضا اجتماع الوجوبات بتظافر أسبابها على الفعل وأنه قد يرتفع بعضها فيحصل عدم الوجوب بالنسبة إلى ذلك السبب المرتفع والوجوب بالنسبة لما عداه من الأسباب وكذا بقية الأحكام تارة تثبت مطلقة وتارة بالنسبة إلى سبب معين فتأمل ذلك والله أعلم .




الخدمات العلمية