الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الشطر الثاني من الكتاب في الزهد .

وفيه بيان حقيقة الزهد .

وبيان فضيلة الزهد ، وبيان درجات الزهد وأقسامه ، وبيان تفصيل الزهد في المطعم والملبس والمسكن والأثاث وضروب المعيشة ، وبيان علامة الزهد .

بيان حقيقة الزهد .

اعلم أن الزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين وينتظم هذا المقام من علم وحال وعمل كسائر المقامات لأن أبواب الإيمان كلها كما قال السلف ترجع إلى عقد وقول وعمل وكأن القول لظهوره أقيم مقام الحال إذ به يظهر الحال الباطن وإلا فليس القول مرادا لعينه ، وإن لم يكن صادرا عن حال سمي إسلاما ولم يسم إيمانا والعلم هو السبب في حال يجري مجرى المثمر والعمل يجري من الحال مجرى الثمرة . فلنذكر الحال مع كلا طرفيه من العلم والعمل ، أما الحال فنعني بها ما يسمى زهدا وهو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه فكل من عدل عن شيء إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنما عدل عنه لرغبته عنه ، وإنما عدل إلى غيره لرغبته في غيره فحاله بالإضافة إلى المعدول عنه يسمى زهدا ، وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمى رغبة وحبا فإذا ، يستدعي حال الزهد مرغوبا عنه ومرغوبا فيه هو خير من المرغوب عنه وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضا مرغوبا فيه بوجه من الوجوه فمن رغب عما ليس مطلوبا في نفسه لا يسمى زاهدا إذ تارك الحجر والتراب وما أشبهه لا يسمى زاهدا ، وإنما يسمى زاهدا من ترك الدراهم والدنانير لأن التراب والحجر ليسا في مظنة الرغبة وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيرا من المرغوب عنه حتى تغلب هذه الرغبة فالبائع لا يقدم على البيع إلا والمشترى عنده خير من المبيع ، فيكون حاله بالإضافة إلى المبيع زهدا فيه ، وبالإضافة إلى العوض عنه رغبة فيه وحبا ، ولذلك قال الله تعالى : " وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين " معناه : باعوه فقد يطلق الشراء بمعنى البيع ووصف إخوة يوسف بالزهد فيه إذ طمعوا أن يخلو لهم وجه أبيهم وكان ذلك عندهم أحب إليهم من يوسف فباعوه طمعا في العوض فإذا كل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو أيضا زاهد ولكن في الآخرة ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الزهد بمن يزهد في الدنيا كما خصص اسم الإلحاد بمن يميل إلى الباطل خاصة ، وإن كان هو للميل في وضع اللسان .

ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه وإلا فترك المحبوب بغير الأحب محال والذي يرغب عن كل ما سوى الله تعالى حتى الفراديس ولا يحب إلا الله تعالى فهو الزاهد المطلق والذي يرغب عن كل حظ ينال في الدنيا ولم يزهد في مثل تلك الحظوظ في الآخرة بل طمع في الحور والقصور والأنهار والفواكه فهو أيضا زاهد ولكنه دون الأول ، والذي يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض كالذي يترك المال دون الجاه أو يترك التوسع في الأكل ولا يترك التجمل في الزينة ، فلا يستحق اسم الزاهد مطلقا ، ودرجته في الزهاد درجة من يتوب عن بعض المعاصي في التائبين ، وهو زهد صحيح ، كما أن التوبة عن بعض المعاصي صحيحة فإن التوبة عبارة عن ترك المحظورات ، والزهد عبارة عن ترك المباحات التي هي حظ النفس ولا يبعد أن يقدر على ترك بعض المباحات دون بعض ، كما لا يبعد ذلك في المحظورات والمقتصر على ترك المحظورات لا يسمى زاهدا وإن كان قد زهد في المحظور وانصرف عنه ولكن العادة تخصص هذا الاسم بترك المباحات فإذا ، الزهد عبارة عن رغبته عن الدنيا عدولا إلى الآخرة أو عن غير الله تعالى عدولا إلى الله تعالى ، وهي الدرجة العليا وكما يشترط في المرغوب فيه أن يكون خيرا عنده فيشترط في المرغوب عنه أن يكون مقدورا عليه فإن ترك ما لا يقدر عليه محال .

التالي السابق


(الشطر الثاني من الكتاب في الزهد

وفيه بيان حقيقة الزهد، وبيان فضيلة الزهد، وبيان درجات الزهد وأقسامه، وبيان تفضيل الزهد في المطعم والملبس والمسكن والأثاث وضرورات المعيشة، وبيان علامة الزهد)

وذلك في فصول خمسة مرتبة:

بيان حقيقة الزهد

(اعلم) هداك الله تعالى (أن الزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين) وهو السادس من مقامات اليقين على ما رتبه صاحب القوت، ولم يعد الفقر منها وإنما ذكره في ضمن مقام الزهد ونحن نقلده في سياقه، وأما السهروردي وشيخ الإسلام الهروي وغيرهما من مشايخ القوم عدوا الفقر من جملة مقامات الدين، وهي مائة مقام في سياق منازل السائرين، (وينتظم هذا المقام من علم وحال وعمل كسائر المقامات) المذكورة والآتية (لأن أبواب الإيمان كلها كما قال السلف ترجع إلى عقد وقول وعمل) فالعقد يرجع إلى القلب، والقول يرجع إلى اللسان، والعمل يرجع إلى الجوارح .

(وكان القول لظهوره أقيم مقام الحال إذا به يظهر الحال الباطن وإلا فليس القول مرادا لعينه، وإن لم يكن صادرا عن حال سمي إسلاما ولم يسم إيمانا) فالعلم هو الأصل الذي هو عقد من عقود الإيمان بالله أو لله، والحال ما ينشأ عنه من المواجيد والعمل هو ما تنشئه المواجيد على القلوب والجوارح من الأعمال (والعلم هو السبب في الحال يجري مجرى المثمر والعمل من الحال) يجري (مجرى الثمرة .

فلنذكر الحال مع كلا طرفيه من العلم والعمل، أما الحال فنعني به) هنا (ما يسمى زهدا وهو) الآلة التي لا يستغني عنها عابد ولا عارف; لأن الدنيا عدوة محبوبة، أما كونها عدوة فلأنها قاطعة شاغلة، وأما كونها محبوبة فلأن أصل الحياة وكمالها لا يتأتى إلا بها، وأصل الحياة هو المقصود للعبادة والمعرفة، وكمال الحياة بالتنعيم هو القاطع إن كان محظورا، أو الشاغل إن كان مباحا .

وأما الزهد فلا يتعلق إلا بترك المباح، وترك المباح منوط بثلاثة آفات: الآفة الأولى: أن الانهماك فيه يحمل على ترك الواجبات وفعل المحظورات إلا بترك فضول الشهوات المباحات. الآفة الثانية: اعتياد النفس وإلفها به فيشق عليها مفارقته والمفارقة للدنيا ضرورة. الآفة الثالثة: الاشتغال به عن معرفة الله التي ما خلقت إلا لأجلها والقلب لا يتسع لحالين إما الإقبال على الدنيا، أو على الآخرة، أو على الله تعالى، فإذا عرفت هذا أن الزهد في الدنيا ضرورة السالك .

فأما السبب الموجب للزهد فقد قال الله تعالى: لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة وقال: ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ ص: 318 ] فقد عرفك طريق الفكر في الآية الأولى وهو أن تنظر إلى فناء الدنيا وسرعة ذهابها حتى كأنها لم تكن، وفي بقاء الآخرة وثباتها حتى كأنها لم تزل مع ما اشتملت عليه الدنيا من الخساسة والقذارة والمكابدة ومحاصرة الشركاء، وكذلك ما اشتملت عليه الآخرة من النفاسة والبهاء وعدم الآفات .

والإيمان بهاتين المعرفتين واجب; لأنهما من عقود الإيمان بالله، فإذا أضفت المعرفة بالآخرة إلى المعرفة بالدنيا وكانت إرادتك مائلة إلى الدنيا انصرفت إرادتك من الدنيا إلى الآخرة فحينئذ تعرف حقيقة الزهد بالذوق إن كنت مصدقا بها برهانا أو تقليدا، فحقيقة الزهد انصراف الإرادة عن الدنيا حقارة لاستعظام ما عاين من نفاسة الآخرة .

وإليه أشار المصنف بقوله: (وهو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه فكل من عدل عن شيء إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنما عدل عنه لرغبته عنه، وإنما عدل إلى غيره لرغبته في غيره فحاله بالإضافة إلى المعدول عنه يسمى زهدا، وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمى رغبة وحبا، فإذا يستدعي حال الزهد مرغوبا عنه ومرغوبا فيه هو خير من المرغوب عنه) فهذا شرط المرغوب فيه .

(وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضا مرغوبا فيه) ولو (بوجه من الوجوه فمن رغب عما ليس مطلوبا) هو (نفسه لا يسمى زهدا) في الحقيقة (إذ تارك الحجر والتراب والحشرات) وما أشبه ذلك من المحقرات (لا يسمى زاهدا، وإنما يسمى زاهدا من ترك الدراهم والدنانير) لأن الدراهم والدنانير مطلوبة في نفسها (والحجر والتراب ليسا في مظنة الرغبة) إليهما .

(وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيرا من المرغوب عنه حتى تغلب هذه الرغبة) إنما قال: عنده; لأنه إذا كان في نفس الأمر خيرا منه إلا أنه ليس عنده ذلك ولا تغلب رغبته فلذلك اشترط أن يكون ذلك عنده لأجل غلبة رغبته (فالبائع لا يقدم على البيع إلا والمشترى عنده خير من المبيع، فيكون حاله بالإضافة إلى المبيع زاهدا فيه، وبالإضافة إلى العوض عنه رغبة وحبا، ولذلك قال الله تعالى: "وشروه") أي: يوسف "بثمن بخس" ناقص (دراهم معدودة) قليلة (وكانوا فيه) أي: يوسف (من الزاهدين) أي: ممن يرغب عما في يده فيبيعه بثمن طفيف (أي: باعوه) هو تفسير لشروه (فقد يطلق الشراء بمعنى البيع) فيقولون: شريت بمعنى بعت، كما يقولون: ابتعت بمعنى اشتريت، وهما من الأضداد (ووصف إخوة يوسف بالزهد فيه إذ طمعوا أن يخلو لهم وجه أبيهم) منهم (وكان ذلك عندهم أحب من يوسف فباعوه طمعا في العوض) فلما باعوه وخرج من أيديهم كانوا من الزاهدين .

(فإذا كل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو أيضا زاهد ولكن في الآخرة) هذا ما تقتضيه اللغة (ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الزاهد بمن يزهد في الدنيا كما خصص اسم الإلحاد بمن يميل إلى الباطل خاصة، وإن كان هو للميل في وضع اللسان) العربي وكذا تخصيص اسم الحنيف بمن يميل إلى الحق، وإن كان في أصل اللسان بمعنى الميل أيضا (ولما كان الزهد) عبارة عن (رغبة عن محبوب بالجملة لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه وإلا فترك المحبوب بغير الأحب محال) وبهذا يفارق الفقر فإن حقيقة الفقر الفقد والاحتياج (والذي يرغب عن كل ما سوى الله تعالى حتى الفراديس) وحتى نسيم الأسحار (ولا يحب الله تعالى فهو الزاهد المطلق) وهذا أعلى المراتب (والذي يرغب عن كل حظ ينال في الدنيا ولم يزهد في مثل تلك الحظوظ في الآخرة بل طمع في الحور والقصور والأنهار والفواكه فهو أيضا زاهد ولكنه دون الأول، والذي يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض كالذي [ ص: 319 ] يترك المال دون الجاه أو يترك التوسع في الأكل ولا يترك التجمل في الزينة، فلا يستحق اسم الزاهد مطلقا، ودرجته في الزهاد درجة من يتوب عن بعض المعاصي دون البعض في التائبين، وهو زهد صحيح، كما أن التوبة عن بعض المعاصي صحيحة) .

وقد ذكر وجه ذلك في كتاب التوبة (فإن التوبة عبارة عن ترك المحظورات، والزهد عبارة عن ترك المباحات التي هي حظ النفس ولا يبعد أن يقدر على ترك بعض المباحات دون بعض، كما لا يبعد ذلك في المحظورات) أي: يترك بعضا منها دون بعض، (والمقتصر على ترك المحظورات دون المباحات لا يسمى زاهدا) وإنما يسمى تائبا (وإن كان هذا قدر زهد في المحظور وانصرف عنه ولكن العادة تخصص هذا الاسم) أي: الزهد (بترك المباحات، فإذا الزهد عبارة عن رغبته عن الدنيا) وإعراضه عنها (عدولا إلى الآخرة أو) عن رغبته (عن غير الله تعالى عدولا إلى الله، وهي الدرجة العليا) في مراتب الزهد (وكما يشترط في المرغوب فيه أن يكون خيرا عنده) لتغلب رغبته (فيشترط في المرغوب عنه أن يكون مقدورا عليه) وبهذا يفارق الفقر (فإن ترك ما لا يقدر عليه محال) .

فإن قلت: هذا يرد عليكم في الزهد في نعيم الجنة بالنسبة إلى التنعم بمشاهدة الله تعالى، فإن نعيم الجنة غير مقدور عليه .

فأقول: نعيم الجنة ضربان: حسي وعقلي، فالحسي ما يتلذذ به سائر البدن من مأكول ومشروب وملبوس ومسموع ومنكوح، فلا تختلف اللذات الحسية في أصل ذلك، إنما الاختلاف في كمال اللذة; لأن قوة اللذة على قدر الشوق، وعلى كمال المتلذذ به، فقد عرفت لذات الآخرة بالمقايسة على لذات الدنيا .

وأما العقلي، فهو كسلام الملائكة وتبشيرها وتعظيمها، وهذا أيضا موجود في الدنيا بتعظيم العباد بعضهم بعضا، فلا يختلف أيضا في أصل اللذة إنما يختلف في كمالها; لأن اللذة بتعظيم العظيم عظيمة، فلما ذاق العارفون في الدنيا اللذات المحسوسة والمعقولة كما وصفنا وذاقوا لذة معرفة الله تعالى بمطالعة جماله وكماله واستغراقهم ذلك في وقت الأنس بمجالسته وموادته ومصافاته استحقروا عند اللذة بهذه المعرفة جميع اللذات العقلية والحسية، وصارت لذة المعرفة عندهم بالنسبة إلى اللذة العقلية كنسبة الحسية ولا تؤثر لذة الحس على لذة العقل إلا بهيمة لم يخلق لها الإدراك الإنساني .




الخدمات العلمية