الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في عقد مجلس مناظرة بين مقلد

وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان

قال المقلد: نحن - معاشر المقلدين - ممتثلون قول الله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، فأمر سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه، وهذا نص قولنا.

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم- من لا يعلم، إلى سؤال من يعلم، فقال في حديث صاحب الشجة: "ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال" .

وقال أبو العسيف الذي زنى بامرأة مستأجره: وإني سألت أهل العلم، فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فلم ينكر عليه تقليد من هو أعلم منه.

وهذا عالم الأرض عمر قد قلد أبا بكر، فروى شعبة عن عاصم الأحول، عن الشعبي: أن أبا بكر قال في الكلالة: أقضي فيها، فإن يكن صوابا، فمن الله، وإن يكن خطأ، فمني ومن الشيطان، والله منه بريء، هو ما دون الولد والوالد.

فقال عمر بن الخطاب: إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر.

وصح عنه أنه قال له: رأينا لرأيك تبع. ابن مسعود: أنه كان يأخذ بقول عمر.

وقال الشعبي عن مسروق: كان ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- يفتون الناس: 1- ابن مسعود. 2- وعمر بن الخطاب. 3- وعلي 4- وزيد بن ثابت. 5- وأبي بن كعب. 6- وأبو موسى.

وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم لقول ثلاثة: 1- كان عبد الله يدع قوله لقول عمر. 2- وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي. 3- وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب.

[ ص: 272 ] وقال جندب: ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس .

وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "إن معاذا قد سن لكم سنة، فكذلك فافعلوا" ، في شأن الصلاة ; حيث أخر، فصلى ما فاته مع الإمام إلى بعد الفراغ، وكانوا يصلون ما فاتهم أولا، ثم يدخلون مع الإمام.

قال المقلد: وقد أمر الله تعالى بطاعته، وطاعة رسوله، وأولي الأمر، وهم العلماء والأمراء .

وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به ; فإنه لولا التقليد، لم يكن هناك طاعة تختص بهم.

وقال تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه [التوبة: 100]، وتقليدهم، اتباع لهم، ففاعله ممن رضي الله عنهم.

ويكفي في ذلك الحديث المشهور: "أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم" .

وقال عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستنا، فليستن بمن قد مات ; فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم-، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم.

وقد روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" أبي بكر وعمر، "واهتدوا بهدي عمار" ، "وتمسكوا بعهد [ابن] ) أم عبد" .

وقد كتب عمر إلى شريح: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله، فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فإن لم يكن في سنة رسول الله، فاقض بما قضى به الصالحون.

[ ص: 273 ] وقد منع عمر من بيع أمهات الأولاد، وتبعه الصحابة.

وألزم بالطلاق الثلاث، واتبعوه أيضا.

واحتلم امرؤ، فقال له عمرو بن العاص: خذ ثوبا غير ثوبك، فقال: لو فعلتها، صارت سنة.

وقد قال أبي بن كعب وغيره من الصحابة: ما استبان لك، فاعمل به، وما اشتبه عليك، فكله إلى عالمه.

وقد كان الصحابة يفتون ورسول الله صلى الله عليه وسلم- حي بين أظهرهم، وهذا تقليد لهم قطعا، إذ قولهم لا يكون حجة في حياة النبي- صلى الله عليه وسلم- .

وقد قال تعالى: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم [التوبة: 122]، وهذا تقليد منهم للعلماء.

وصح عن ابن الزبير: أنه سئل عن الجد والإخوة، فقال: أما الذي قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا، لاتخذته خليلا" ، فإنه أنزله أبا. وهذا ظاهر في تقليده له.

وقد أمر الله سبحانه بقبول شهادة الشاهد، وذلك تقليد له.

وجاءت الشريعة بقبول قول القائف، والخارص، والقاسم، والمقوم للمتلفات وغيرها، والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد. وذلك تقليد محض.

وأجمعت الأمة على قبول قول المترجم، والرسول، والمعرف، والمعدل، وإن اختلفوا في جواز الاكتفاء بواحد، وذلك تقليد محض لهؤلاء.

وأجمعوا على جواز شراء اللحمان، والثياب، والأطعمة وغيرها، من غير سؤال عن أسباب حلها وتحريمها، اكتفاء بتقليد أربابها .

ولو كلف الناس كلهم الاجتهاد، وأن يكونوا علماء، لضاعت مصالح العباد، [ ص: 274 ] وتعطلت الصنائع والمتاجر، وكان الناس كلها علماء مجتهدين، وهذا لا سبيل إليه شرعا، والقدر قد منع من وقوعه.

وقد أجمع الناس على تقليد الزوج للنساء اللاتي يهدين إليه زوجته، وجواز وطئها، تقليدا لهن في كونها هي زوجته .

وأجمعوا على أن الأعمى يقلد في القبلة.

وعلى تقليد الأئمة في الطهارة، وقراءة الفاتحة، وما يصح به الاقتداء .

وعلى تقليد الزوجة، مسلمة كانت أو ذمية، أن حيضها قد انقطع، فيباح للزوج وطؤها بالتقليد، ويباح للمولى تزويجها بالتقليد لها في انقضاء عدتها.

وعلى جواز تقليد الناس للمؤذنين في دخول أوقات الصلوات، ولا يجب عليهم الاجتهاد، ومعرفة ذلك بالدليل.

وقد قالت الأمة السوداء لعقبة بن الحارث: أرضعتك وأرضعت امرأتك. فأمره النبي- صلى الله عليه وسلم- بفراقها، وتقليدها فيما أخبرته به من ذلك.

وقد صرح الأئمة بجواز التقليد، فقال حفص بن غياث: سمعت سفيان يقول: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى تحريمه، فلا تتهمه.

وقال محمد بن الحسن: يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد من هو مثله.

وقد صرح الشافعي بالتقليد، وفي الصلع بغير قلته تقليدا لعمر.

وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب: قلته تقليدا لعثمان .

وقال في مسألة الجد مع الإخوة: إنه يقاسمهم. ثم قال: وإنما قلت بقول زيد، وعنه قلنا أكثر الفرائض.

وقد قال في موضع آخر من "كتابه الجديد" : قلته تقليدا لعطاء .

وهذا أبو حنيفة - رحمه الله - قال في مسائل الآبار: ليس معه ما فيها إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها.

[ ص: 275 ] وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة، ويصرح في "موطئه" بأنه أدرك العمل على هذا، وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا.

ويقول في غير موضع: ما رأيت أحدا أقتدي به يفعله. ولو جمعنا ذلك من كلامه، لطال.

وقد قال الشافعي في الصحابة: رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا.

ونحن نقول ونصدق: أن رأي الشافعي والأئمة معه لنا خير من رأينا لأنفسنا .

وقد جعل الله سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين، ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا، وذلك عام في كل علم وصناعة .

وقد فاوت الله سبحانه بين قوى الأذهان، كما فاوت بين قوى الأبدان.

فلا يحسن في حكمته، وعدله، ورحمته، أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله، والجواب عن معارضيه في جميع مسائل الدين، دقيقها وجليلها.

ولو كان كذلك، لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء، بل جعل سبحانه هذا عالما، وهذا متعلما، وهذا متبعا للعالم، مؤتما به، بمنزلة المأموم مع الإمام، والتابع مع المتبوع.

وأين حرم الله تعالى على الجاهل أن يكون متبعا للعالم، مؤتما به، مقلدا له بسيره، وينزل بنزوله، وقد علم سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق؟

فهل فرض على كل منهم فرض عين أن يأخذ حكم نازلة من الأدلة الشرعية، بشروطها ولوازمها؟

وهل ذلك في إمكان أحد، فضلا عن كونه مشروعا؟

وهؤلاء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتحوا البلاد، وكان الحديث العهد بالإسلام يسألهم فيفتونه، ولا يقولون له: عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل، ولا يعرف ذلك عن أحد منهم البتة .

[ ص: 276 ] وهل التقليد إلا من لوازم التكليف، ولوازم الوجود؟ فهو من لوازم الشرع والقدر.

والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد. وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها.

ونقول لمن احتج على إبطاله: كل حجة أثرية ذكرتها، فأنت مقلد لحملتها ورواتها، إذا لم يقم دليل قطعي على صدقهم، فليس بيدك إلا تقليد الراوي والشاهد، ومنعنا من تقليد العالم، وهذا سمع بأذنه ما رواه، وهذا عقل بقلبه ما سمعه، فأدى هذا مسموعه، وأدى هذا معقوله، وفرض على هذا تأدية ما عقله، وعلى من لم يبلغ منزلتهما القبول منهما.

ثم يقال للمانعين عن التقليد: أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ ; بأن يكون من قلده مخطئا في فتواه، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق.

ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم، أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه، وهذا كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها، فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة، خبيرا بها، أمينا ناصحا، كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه، وهذا متفق عليه بين العقلاء.

التالي السابق


الخدمات العلمية