الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد

آية توبيخ للكفرة، أي: وإن تعجب يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق فهم أهل لذلك، وعجب وغريب، والمراد به قولهم: "أنعود بعد كوننا ترابا خلقا جديدا"؟ ويحتمل اللفظ منزعا آخر، أي: وإن كنت تزيد عجبا فهلم فإن من أعجب العجب قولهم.

واختلف القراء في قراءة قوله: أإذا كنا ترابا -فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : "أئذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد" جميعا بالاستفهام، غير أن أبا عمرو مد الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مد. وقرأ نافع : "أيذا كنا ترابا" مثل أبي عمرو واختلف عنه في المد، وقرأ: "إنا لفي خلق جديد" مكسورة على الخبر، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول عن الثاني، غير أنه كان يهمز همزتين، وقرأ عاصم وحمزة : "أئذا كنا ترابا أإنا" بهمزتين فيهما، وقرأ ابن عامر: "إذا كنا ترابا" مكسورة الألف من غير استفهام "آئنا" بهمز ثم يمد ثم يهمز. فمن قرأ [ ص: 177 ] بالاستفهامين فذلك للتأكيد والتحفي والاهتبال بهذا التقدير، ومن استفهم في الأول فقط فإنما القصد بالاستفهام الموضع الثاني، و "إذا" ظرف له، و "إذا" في موضع نصب بفعل مضمر تقديره: أنبعث أو نحشر إذا؟ ومن استفهم في الثاني فقط فهو بين، والإشارة بـ "أولئك" إلى القوم القائلين: أإذا كنا ترابا ، وتلك المقالة إنما هي تقرير مصمم على الجحد والإنكار للبعث فلذلك حكم عليهم بالكفر.

وقوله: وأولئك الأغلال يحتمل معنيين: أحدهما الحقيقة وأنه أخبر عن كون الأغلال في أعناقهم في الآخرة، فهي كقوله تعالى: إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل ، ويحتمل أن يكون مجازا وأنه أخبر عن كونهم مغللين عن الإيمان، فهي إذا تجري مجرى الطبع والختم على القلوب، وهي كقوله تعالى: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان، فهم مقمحون ، وباقي الآية بين. وقال بعض الناس: الأغلال هنا عبارة عن الأعمال، أي: أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وتحرير هذا هو في التأويل الثاني الذي ذكرناه.

وقوله تعالى: ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة الآية، هذه آية تبيين لخطئهم في أن يتمنوا المصائب ويطلبوا سقوط كسف من السماء أو حجارة تمطر عليهم ونحو هذا مع خلو ذلك في الأمم ونزوله بأناس كثير، ولو كان ذلك لم ينزل قط لكان لهم العذر.

و"المثلات" جمع مثلة كسمرة وسمرات وصدقة وصدقات، وقرأ الجمهور: "المثلات" بفتح الميم وضم الثاء، وقرأ مجاهد بفتح الميم والثاء، وذلك جمع مثلة [ ص: 178 ] في الآخرة بمعنى العدة بالعقوبة. وقرأ عيسى بن عمر: "المثلات" بضم الميم والثاء، ورويت عن أبي عمرو ، وقرأ يحيى بن وثاب: "المثلات" بضم الميم وسكون الثاء، وهاتان جمع مثلة، وقرأ طلحة بن مصرف : "المثلات" بفتح الميم وسكون الثاء.

ثم رجى تعالى بقوله: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم . قال الطبري : معناه: في الآخرة، وقال قوم: المعنى: إذا تابوا، و "شديد العقاب" إذا كفروا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والظاهر من معنى المغفرة هنا إنما هو: ستره في الدنيا وإمهاله للكفرة، ألا ترى التيسير في لفظ "مغفرة"، وأنها منكرة مقللة، وليس فيها مبالغة كما في قوله تعالى: وإني لغفار لمن تاب وآمن ، ونمط الآية يعطي هذا، ألا ترى حكمه عليهم بالنار؟ ثم قال: "ويستعجلونك"، فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم فأخبر بسيرته في الأمم وأنه يمهل مع ظلم الكفر؟ ولم يرد في الشرع أن الله تعالى يغفر ظلم العباد.

ثم خوف بقوله: وإن ربك لشديد العقاب ، قال ابن المسيب: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا عفو الله ومغفرته لما تمنى أحد عيشا، ولولا عقابه لاتكل كل أحد"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في القرآن أرجى من هذه [ ص: 179 ] الآية"، و"المثلات" هي العقوبات المنكلات التي تجعل الإنسان مثلا يتمثل به، ومنه التمثيل بالقتلى، ومنه المثلة بالعبيد.

وقوله تعالى: ويقول الذين كفروا الآية. هذه آية غض من اقتراحاتهم المتشططة التي لم يجر الله به عادة إلا للأمة التي حتم بعذابها واستئصالها، والآية هنا- يراد بها الأشياء التي سمتها قريش كالملك والكنز وغير ذلك، ثم أخبره الله تعالى بأنه منذر، وهذا الخبر قصد هو بلفظه والناس أجمعون بمعناه.

واختلف المفسرون في قوله: ولكل قوم هاد ، فقال عكرمة ، وأبو الضحى: المراد بالهاد محمد عليه الصلاة والسلام. و"هاد" عطف على "منذر" كأنه قال: "إنما أنت منذر وهاد لكل قوم"، فيكون هذا المعنى يجري مع قوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت إلى الأحمر والأسود"، "وهاد" -على هذا في هذه الآية- داع إلى طريق الهدى. وقال مجاهد ، وابن زيد : المعنى: "إنما أنت منذر، ولكل أمة سلفت هاد، أي نبي يدعوهم، والمقصد: فليس أمرك يا محمد ببدع ولا منكر"، وهذا يشبه غرض الآية. وقالت فرقة: "الهادي -في هذه الآية- الله عز وجل"، روي ذلك عن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير . و"هاد" -على هذا- معناه: مخترع للرشاد، تطلق بهذا المعنى، ويعرف أن الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع. وقالت فرقة: "الهادي علي بن أبي طالب "، وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ هذه الآية وعلي حاضر فأومأ بيده إلى منكب علي وقال: ("أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون من بعدي".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والذي يشبهه -إن صح هذا- أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل عليا مثالا من علماء الأمة [ ص: 180 ] وهداتها إلى الدين، كأنه قال: يا علي أنت وصنفك، فيدخل في هذا أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء الصحابة عليهم رضوان الله أجمعين -ثم كذلك من كل عصر، فيكون المعنى -على هذا-: إنما أنت يا محمد منذر، ولكل قوم في القديم والحديث رعاة وهداة إلى الخير، والقول الأول أرجح ما تؤول في الآية.

التالي السابق


الخدمات العلمية