الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها وفي رواية لهما إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن ولمسلم لا تمنعوا إماء الله المساجد وليخرجن تفلات ولأبي داود فيه بإسناد صحيح وبيوتهن خير لهن ولمسلم أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة وله من حديث زينب الثقفية إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة .

                                                            التالي السابق


                                                            الحديث الخامس وعن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها (فيه) فوائد .

                                                            (الأولى) فيه جواز خروج النساء إلى مسجد الجماعة ؛ لأنه لو كان ممنوعا عليهن لم يؤمر الرجال بالإذن لهن إذا استأذن ولكنه مشروط بشروط تأتي في بقية فوائد الحديث واختلف العلماء في شهودها للجماعة هل هو مندوب أو مباح فقط ؟ فقال محمد بن جرير الطبري : إن إطلاق الخروج لهن إلى المساجد إباحة لا ندب ولا فرض وفرق بعضهم بين الشابة [ ص: 315 ] والعجوز كما سيأتي في الفائدة الحادية عشرة .



                                                            (الثانية) فيه أن الزوج مأمور أن لا يمنعها من المساجد إذا استأذنته ولكن بالشروط الآتي ذكرها قال ابن بطال الأغلب من حال أهل ذلك الزمان وأما حديث عائشة ففيه دليل على أنه لا ينبغي للنساء أن يخرجن إلى المساجد إذا حدث في الناس الفساد .

                                                            (الثالثة) هذا الأمر للأزواج هل هو على سبيل الوجوب أو على سبيل الندب ؟ حمله البيهقي على الندب واستدل على ذلك بما رواه بإسناده من رواية عبد الحميد بن المنذر بن أبي حميد عن أبيه عن جدته أم حميد أنها قالت : يا رسول الله إنا نحب الصلاة تعني معك فيمنعنا أزواجنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلاتكن في بيوتكن خير من صلاتكن في دوركن وصلاتكن في دوركن أفضل من صلاتكن في مسجد الجماعة قال البيهقي : وفيه دلالة على أن الأمر بأن لا يمنعن أمر ندب واستحباب لا أمر فرض وإيجاب ، قال وهو قول العامة من أهل العلم انتهى .

                                                            وكذا جزم به ابن بطال فقال إن نهيه عن منعها من الصلاة في المساجد نهي أدب لا أنه واجب عليه أن لا يمنعها .



                                                            (الرابعة) أطلق في بعض طرق الحديث النهي عن منعهن كما تقدم وقيده في بعضها بالليل فقال إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن وهي في الصحيحين كما ذكرته في الأصل ، والتقييد بالطرق مما يخصص به قال ابن بطال وفي هذه الرواية دليل على أن النهار بخلاف ذلك لنصه على الليل قال : وهذا الحديث يقضي على المطلق ، ألا ترى إلى قول عائشة ما يعرفهن أحد من الغلس .

                                                            (الخامسة) إن قيل ظاهر رواية البيهقي أن التقييد بالليل مدرج من قول سفيان فإنه رواه من طريقه إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها ، ثم قال زاد العلوي في روايته قال سفيان إذا كان ذلك ليلا ؟ .

                                                            والجواب أن رواية سفيان في الصحيحين وغيرهما مطلقة ليس فيها التقييد بالليل فلا يضرنا زيادة سفيان فيها اشتراطه ذلك والرواية التي فيها التقييد بالليل ليست من طريقه إنما هي من رواية حنظلة عن سالم عن أبيه عند البخاري واتفق عليها الشيخان أيضا من رواية مجاهد عن ابن عمر وليست من طريق سفيان وليست على هذا مدرجة [ ص: 316 ] وإنما هي من أصل الحديث .



                                                            (السادسة) فيه دليل على أن المرأة لا تخرج إلى المسجد إلا بإذن زوجها أو غيره من أوليائها قاله ابن بطال وغيره وقال ابن دقيق العيد قيل : إن فيه دليلا على أن للزوج منع امرأته من الخروج إلا بإذنه قال وهذا إن أخذ من تخصيص النهي بالخروج إلى المساجد فإن ذلك يقتضي بطريق المفهوم جواز المنع في غير المساجد فقد يعترض عليه بأن هذا تخصيص للحكم باللقب ومفهوم اللقب ضعيف عند أهل الأصول قال ويمكن أن يقال في هذا إن منع الرجال للنساء من الخروج مشهور معلوم وإنما علق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز على المنع المستمر المعلوم فبقي ما عداه على المنع المعلوم وعلى هذا فلا يكون منع الرجل بخروج امرأته لغير المسجد مأخوذا من تقييد الحكم بالمسجد .

                                                            (السابعة) قوله في رواية مسلم لا تمنعوا إماء الله مساجد الله قال ابن دقيق العيد إن التعبير بإماء الله أوقع في النفس من التعبير بالنساء لو قيل : ففيه مناسبة تقتضي الإباحة أعني بكونهن إماء الله بالنسبة إلى خروجهن إلى المساجد وإذا كان مناسبا أمكن أن يكون علة الجواز فإذا انتفى انتفى الحكم ؛ لأن الحكم يزول بزوال علته قال والمراد بالانتفاء هنا انتفاء الخروج إلى المساجد انتهى . يريد بذلك أنه يقتضي أن للزوج منعها من غير المساجد كما تقدم في الفائدة السادسة .



                                                            (الثامنة) قوله في رواية مسلم وليخرجن تفلات هو بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الفاء جمع تفلة ، مأخوذ من التفل بفتحهما وهو الريح الكريهة والمراد به ليخرجن تاركات للطيب ومنه الحديث الآخر الحاج الشعث التفل .

                                                            (التاسعة) في هذه الرواية ، وكذا في رواية مسلم أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة حجة على أنه يحرم على المرأة الطيب للخروج إلى المسجد وكذلك حديث زينب الثقفية عند مسلم إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة وهو كذلك والبخور بفتح الباء الموحدة ما يتبخر به من عود أو لبان أو غيرهما .

                                                            (العاشرة) قال ابن دقيق العيد يلتحق بالطيب ما في معناه فإن الطيب إنما منع منه لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم قال وقد ألحق به حسن الملابس ولبس الحلي الذي يظهر أثره في الزينة وحمل عليه بعضهم قول عائشة في الصحيحين [ ص: 317 ] لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل .



                                                            (الحادية عشرة) في رواية أبي داود وبيوتهن خير لهن حجة لمن لم يستحب لهن شهود الجماعة وهو قول أهل الكوفة وكان إبراهيم النخعي يمنع نساءه الجمعة والجماعة وقال أبو حنيفة أكره للنساء شهود الجمعة والصلاة المكتوبة وقد أرخص للعجوز أن تشهد العشاء والفجر وأما غير ذلك فلا وقال الثوري ليس للمرأة خير من بيتها وإن كانت عجوزا وقال أبو يوسف أكرهه للشابة ولا بأس أن تخرج العجوز في الصلوات كلها .

                                                            وكذا قال أصحابنا إن أردن حضور المسجد مع الرجال كره للشواب دون العجائز وروى أشهب عن مالك قال وللمتجالة أن تخرج إلى المسجد ولا تكثر التردد إليه وللشابة أن تخرج المرة بعد المرة .

                                                            (الثانية عشرة) استثنى بعضهم من الكراهة مسجدي مكة والمدينة لما رواه البيهقي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : والذي لا إله غيره ما صلت امرأة صلاة خيرا لها من صلاة تصليها في بيتها إلا أن يكون المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عجوز في منقليها وفي إسناده المسعودي تكلم في حفظه والمنقلان الخفان وقيل الخفان الخلقان ضبطه الأزهري والهروي بفتح الميم وضبطه الجوهري بالكسر وذكره ابن مالك في المثلث وقال هو بالكسر والفتح الخف وبالضم الخف المصلح .



                                                            (الثالثة عشرة) قال ابن بطال ويخرج من هذا الحديث أن الرجل إذا استأذنته امرأته إلى الحج لا يمنعها فيكون وجه نهيه عن مسجد الله الحرام لأداء فريضة الحج نهي إيجاب قال وهو قول مالك والشافعي في أن المرأة ليس لزوجها منعها من الحج انتهى .

                                                            (قلت) وما نقله عن الشافعي هو أحد قوليه والقول الآخر وهو الأظهر عند أصحابه أن له منعها من حج الفرض ولا يلزم من الإذن لها في المسجد القريب الإذن في الحج الذي يحتاج إلى سفر ونفقة وأعمال كثيرة .




                                                            الخدمات العلمية