الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما مقدار الجزية قال الله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فلم تكن في ظاهر الآية دلالة على مقدار منها بعينه . وقد اختلف الفقهاء في مقدارها ، فقال أصحابنا : { على الموسر منهم ثمانية وأربعون درهما ، وعلى الوسط أربعة وعشرون درهما ، وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهما } ، وهو قول الحسن بن صالح . وقال مالك : { أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق الغني والفقير سواء لا يزاد ولا ينقص } . وقال الشافعي { دينار على الغني والفقير } . وروى أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب قال : بعث عمر بن الخطاب عثمان بن حنيف فوضع على أهل السواد الخراج ثمانية وأربعين درهما وأربعة وعشرين درهما واثني عشر درهما . وروى الأعمش عن إبراهيم بن مهاجر عن عمرو بن ميمون قال : بعث عمر بن الخطاب حذيفة بن اليمان على ما وراء دجلة وبعث عثمان بن حنيف على ما دون دجلة ، فأتياه فسألهما : كيف وضعتما على أهل الأرض ؟ قالا : وضعنا على كل رجل أربعة دراهم في كل شهر ، قال : ومن يطيق هذا ؟ قالا : إن لهم فصولا فذكر عمرو بن ميمون ثمانية وأربعين درهما ، ولم يفصل الطبقات ، وذكر حارثة بن مضرب تفصيل الطبقات الثلاث ، فالواجب أن يحمل ما في حديث عمرو بن ميمون على أن مراده أكثر ما وضع من الجزية ، وهو ما على الطبقة العليا دون الوسطى والسفلى .

وروى مالك عن نافع عن أسلم : أن عمر ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق أربعين درهما مع أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام وهذا نحو رواية عمرو بن ميمون ؛ لأن أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام مع الأربعين يفي ثمانية وأربعين درهما ، فكان الخبر الذي فيه تفصيل الطبقات الثلاث أولى بالاستعمال لما فيه من الزيادة ، وبيان حكم كل طبقة ؛ ولأن من وضعها على الطبقات فهو قائل بخبر الثمانية والأربعين ، ومن اقتصر على الثمانية والأربعين فهو تارك للخبر الذي فيه ذكر تمييز الطبقات ، وتخصيص كل واحد بمقدار منها . واحتج من قال [ ص: 291 ] بدينار على الغني والفقير بما روي عن معاذ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر ، وهذا عندنا فيما كان منه على وجه الصلح أو يكون ذلك جزية الفقراء منهم ، وذلك عندنا جائز ، والدليل عليه ما روي في بعض أخبار معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم أو حالمة دينارا ، ولا خلاف أن المرأة لا تؤخذ منها الجزية إلا أن يقع الصلح عليه .

وروى أبو عبيد عن جرير عن منصور عن الحكم قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ ، وهو باليمن : إن في الحالم والحالمة دينارا أو عدله من المعافر قال أبو عبيد : وحدثنا عثمان بن صالح عن عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن : إنه من كان على يهودية أو نصرانية فإنه لا ينقل عنها وعليه الجزية وعلى كل حالم ذكر أو أنثى عبد أو أمة دينار أو قيمته من المعافر ، ويدل على أن الجزية على الطبقات الثلاث أن خراج الأرضين جعل على مقدار الطاقة ، واختلف بحسب اختلافها في الأرض وغلتها ، فجعل على بعضها قفيزا ودرهما وعلى بعضها خمسة دراهم وعلى بعضها عشرة دراهم فوجب على ذلك أن يكون كذلك حكم خراج الرءوس على قدر الإمكان والطاقة ، ويدل على ذلك قول عمر لحذيفة وعثمان بن حنيف : لعلكما حملتما أهل الأرض ما لا يطيقون ؟ فقالا : بل تركنا لهم فضلا . وهذا يدل على أن الاعتبار بمقدار الطاقة ، وذلك يوجب اعتبار حالي الإعسار ، واليسار . وذكر يحيى بن آدم أن الجزية على مقدار الاحتمال بغير توقيت ، وهو خلاف الإجماع . وحكي عن الحسن بن صالح أنه لا تجوز الزيادة في الجزية على وظيفة عمر ، ويجوز النقصان على حسب الطاقة . وقد روى الحكم عن عمرو بن ميمون أنه شهد عمر يقول لعثمان بن حنيف : والله لئن وضعت عن كل جريب من الأرض قفيزا ودرهما ، وعلى كل رأس درهمين لا يشق ذلك عليهم ، ولا يجهدهم قال : وكانت ثمانية وأربعين فجعلها خمسين . واحتج من قال بجواز الزيادة بهذا الحديث ، وهذا ليس بمشهور ، ولم تثبت به رواية ، واحتجوا أيضا بما روى أبو اليمان عن صفوان بن عمرو عن عمر بن عبد العزيز : أنه فرض على رهبان الديارات على كل راهب دينارين ، وهذا عندنا على أنه ذاهب من الطبقة الوسطى ، فأوجب ذلك عليهم ما رأى من احتمالهم له ، كما روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح قال : سألت مجاهدا : لم وضع عمر على أهل الشام من الجزية أكثر مما ، وضع على أهل اليمن ؟ قال : لليسار .

[ ص: 292 ] في تمييز الطبقات

قال أبو يوسف في كتاب الخراج : { تؤخذ منهم على الطبقات على ما وصفت ثمانية وأربعين على الموسر مثل الصيرفي والبزاز وصاحب الصنعة ، والتاجر والمعالج والطبيب وكل من كان في يده منهم صنعة وتجارة يحترف بها أخذ من أهل كل صناعة وتجارة على قدر صناعتهم وتجارتهم ثمانية وأربعون على الموسر وأربعة وعشرون من المتوسط ، من احتملت صناعته ثمانية وأربعين أخذ منه ذلك ، ومن احتملت أربعة وعشرين أخذ ذلك منه ، واثنا عشر على العامل بيده مثل الخياط والصباغ والجزار والإسكاف ومن أشبههم } . فلم يعتبر الملك ، واعتبر الصناعات ، والتجارات على ما جرت به عادة الناس في الموسر والمعسر منهم . وذكر علي بن موسى القمي من غير أن عزى ذلك إلى أحد من أصحابنا أن الطبقة الأولى من يحترف ، وليس له ما يجب في مثله الزكاة على المسلمين ، وهم الفقراء المحترفون ، فمن كان له أقل من مائتي درهم فهم من أهل هذه الطبقة ، قال : والطبقة الثانية أن يبلغ مال الرجع مائتي درهم فما زاد إلى أربعة آلاف درهم ؛ لأن من له مائتا درهم غني تجب عليه الزكاة لو كان مسلما فهو خارج عن طبقة الفقراء ، قال : وإنما أخذنا اعتبار الأربعة الآلاف من قول علي رضي الله عنه وابن عمر : { أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوق ذلك فهو كثير } قال : وقد يجوز أن تجعل الطبقة الثانية من ملك مائتي درهم إلى عشرة آلاف درهم ، وما زاد على ذلك فهو من الطبقة الثالثة لما روى حماد بن سلمة عن طلحة بن عبد الله بن كريز عن أبي الضيف عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ترك عشرة آلاف درهم جعلت صفائح يعذب بها يوم القيامة . وهذا الذي ذكره علي بن موسى القمي هو اجتهاد يسوغ القول به لمن غلب في ظنه صوابه . وقوله تعالى : عن يد قال قتادة : { عن قهر } كأنه ذهب في اليد إلى القوة والقدرة والاستعلاء فكأنه قال : على استعلاء منكم عليهم ، وقهرهم . وقيل : عن يد يعني عن يد الكافر . وإنما ذكر اليد ليفارق حال الغصب ؛ لأنه يعطيها بيده راضيا بها حاقنا بها دمه ، فكأنه قال : حتى يعطيها ، وهو راض بها . ويحتمل : عن يد عن نعمة ، فيكون تقديره : حتى يعطوا الجزية عن اعتراف منهم بالنعمة فيها عليهم بقبولها منهم . وقال بعضهم : عن يد يعني عن نقد من قولهم : يدا بيد . وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : كل من أطاع القاهر بشيء أعطاه عن طيب نفس ، وقهر له من يد في يده فقد أعطاه عن يد . قال : والصاغر الذليل الحقير . وقوله وهم صاغرون قال ابن عباس : يمشون [ ص: 293 ] بها ملببين ، وقال سلمان : مذمومين غير محمودين وقيل : إنما كان صغارا لأنها مستحقة عليهم يؤخذون بها ، ولا يثابون عليها ، وقال عكرمة : الصغار إعطاء الجزية قائما والأخذ جالسا . وقيل : { الصغار الذل } . ويجوز أن يكون المراد به الذلة التي ضربها الله عليهم بقوله : ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس والحبل الذمة التي عهدها الله لهم ، وأمر المسلمين بها فيهم .

وروى عبد الكريم الجزري عن سعيد بن المسيب أنه كان يستحب أن يتعب الأنباط في الجزية إذا أخذت منهم . قال أبو بكر : ولم يرد بذلك تعذيبهم ، ولا تكليفهم فوق طاقتهم ، وإنما أراد الاستخفاف بهم ، وإذلالهم .

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا إسحاق بن الحسن : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا سفيان عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا لقيتم المشركين في الطريق فلا تبدءوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقه .

وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا مطير قال : حدثنا يوسف الصفار قال : حدثنا أبو بكر بن عياش عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصافحوا اليهود والنصارى . فهذا كله من الصغار الذي ألبس الله الكفار بكفرهم ؛ ونحوه قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم الآية ، وقال : لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم فنهى في هذه الآيات عن موالاة الكفار وإكرامهم وأمر بإهانتهم وإذلالهم ونهى عن الاستعانة بهم في أمور المسلمين لما فيه من العز ، وعلو اليد .

وكذلك كتب عمر إلى أبي موسى ينهاه أن يستعين بأحد من أهل الشرك في كتابته ، وتلا قوله تعالى : لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا وقال : لا تردوهم إلى العز بعد إذلالهم الله . وقوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون قد اقتضى وجوب قتلهم إلى أن تؤخذ منهم الجزية على وجه الصغار والذلة ، فغير جائز على هذه القضية أن تكون لهم ذمة إذا تسلطوا على المسلمين بالولايات ونفاذ الأمر والنهي ، إذ كان الله إنما جعل لهم الذمة وحقن دماءهم بإعطاء الجزية وكونهم صاغرين .

فواجب على هذا قتل من تسلط على المسلمين بالغصوب ، وأخذ الضرائب ، والظلم سواء كان السلطان ولاه ذلك أو فعله بغير أمر السلطان وهذا يدل على أن هؤلاء النصارى الذين يتولون أعمال السلطان وظهر منهم ظلم واستعلاء على المسلمين ، وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة ، وإن كان آخذ الضرائب ممن ينتحل الإسلام والقعود على المراصد لأخذ أموال [ ص: 294 ] الناس يوجب إباحة دمائهم إذ كانوا بمنزلة قطاع الطريق ، ومن قصد إنسانا لأخذ ماله ، فلا خلاف بين الفقهاء أن له قتله .

وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : من طلب ماله فقاتل فقتل فهو شهيد وفي خبر آخر : من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ؛ فإذا كان هذا حكم من طلب أخذ مال غيره غصبا وهو ممن ينتحل الإسلام فالذمي إذا فعل ذلك استحق القتل من وجهين :

أحدهما : ما اقتضاه ظاهر الآية من وجوب قتله ، والآخر : قصده المسلم بأخذ ماله ظلما .

التالي السابق


الخدمات العلمية