الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا [ ص: 193 ] ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار

الضمير في "له" عائد على اسم الله تبارك وتعالى، وقال ابن عباس : " دعوة الحق لا إله إلا الله". وما كان من الشريعة في معناه، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "هي التوحيد"، ويصح أن يكون معناها: له دعوة العباد بالحق ودعاء غيره من الأوثان باطل.

وقوله: "والذين" يراد به ما عبد من دون الله، والضمير في "يدعون" لكفار قريش ونحوهم من العرب ، وروى اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء " تدعون من دونه " بالتاء من فوق، و"يستجيبون" بمعنى يجيبون، ومنه قول الشاعر:


وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب



ومعنى الكلام: والذين يدعونهم الكفار في حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون بشيء.

ثم مثل تعالى مثالا لإجاباتهم بالذي يبسط كفيه نحو الماء ويشير إليه بالإقبال إلى فيه، فهو لا يبلغ فمه أبدا، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع. وقوله: "هو" يريد به الماء وهو البالغ، والضمير في "بالغه" للفم، ويصح أن يكون "هو" يريد به الفم وهو البالغ أيضا، والضمير في "بالغه" للماء، لأن الفم لا يبلغ الماء أبدا على تلك الحال، ثم أخبر تعالى عن دعاء الكافرين أنه في ضلال لا يفيد فيه شيء ولا يغني.

وقوله تعالى: ولله يسجد الآية. يحتمل ظاهر هذه الألفاظ أنه جرى في طريق التنبيه على قدرة الله، وتسخير الأشياء له فقط، ويحتمل أن يكون في ذلك طعن على كفار قريش وحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، أي: إن كنتم أنتم لا توقنون ولا تسجدون فإن جميع من [ ص: 194 ] في السموات والأرض لهم سجود لله تعالى، وإلى هذا الاحتمال نحا الطبري ، و"من" تقع على الملائكة عموما، وسجودهم طوع بلا خلاف، وأما أهل الأرض فالمؤمنون منهم داخلون في من وسجودهم طوع، وأما سجود الكفرة فهو الكره، وذلك على نحوين من هذا المعنى، فإن جعلنا السجود هذه الهيئة المعهودة فالمراد من الكفرة من يضمه السيف إلى الإسلام -كما قال قتادة - فيسجد كرها، إما نفاقا، وإما أن يكون الكره أول حاله فتستمر عليه الصفة وإن صح إيمانه بعد، وإن جعلنا السجود الخضوع والتذلل على حسب ما هو في اللغة كقول الشاعر:


..............................     ترى الأكم فيه سجدا للحوافر



فيدخل الكفار أجمعون في "من"، لأنه ليس من كافر إلا ويلحقه من التذلل والاستكانة بقدرة الله أنواع أكثر من أن تحصى بحسب رزاياه واعتباراته، وقال النحاس ، والزجاج : إن الكره يكون في سجود عصاة المسلمين وأهل الكسل منهم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وإن كان اللفظ يقتضي هذا فهو قلق من جهة المعنى المقصود بالآية.

وقوله تعالى: وظلالهم بالغدو والآصال إخبار عن أن "الظلال" لها سجود لله تعالى بالبكر والعشيات، قال الطبري : وهذا كقوله تعالى: أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله ، قال: وذلك هو فيؤه بالعشي، وقال مجاهد : "ظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره"، وقال ابن عباس : "يسجد ظل الكافر حين يفيء عن يمينه وشماله"، وحكى الزجاج أن بعض الناس قال: إن "الظلال" هنا يراد بها الأشخاص، وضعفه أبو إسحاق. و"الآصال" جمع أصيل، وقرأ أبو [ ص: 195 ] مجلز: "والإيصال"، قال أبو الفتح : هو مصدر آصلنا، أي: دخلنا في الأصيل، كأصبحنا وأمسينا. وروي أن الكافر إذا سجد لصنمه فإن ظله يسجد لله تعالى حينئذ.

وقوله تعالى: قل من رب السماوات والأرض الآية. جاء السؤال والجواب في هذه الآية من ناحية واحدة، إذ كان السؤال والتقرير عن أمر واضح لا مدافعة لأحد فيه ملتزم للحجة، فكان السبق إلى الجواب أفصح في الاحتجاج وأسرع في قطعهم من انتظار الجواب منهم، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقع البدار إليه. وقال مكي : جهلوا الجواب وطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل، فلما تقيد من هذا كله أن الله تعالى هو رب السماوات والأرض وقع التوبيخ على اتخاذهم من دونه أولياء متصفين بأنهم لا ينفعون أنفسهم ولا يضرونها، وهذه غاية العجز، وفي ضمن هذا الكلام: "وتركتموه وهو الذي بيده ملكوت كل شيء"، ولفظة: من دونه تقتضي ذلك.

ثم مثل الكفار والمؤمنين -بعد هذا- بقوله: قل هل يستوي الأعمى والبصير ، وقرأ ابن كثير ، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : "تستوي الظلمات" بالتاء، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : "يستوي" بالياء، فالتأنيث أحسن لأنه مؤنث لم يفصل بينه وبين عامله بشيء، والتذكير شائع لأنه تأنيث غير حقيقي والفعل مقدم، وشبهت هذه الآية الكافر بالأعمى والكفر بالظلمات، وشبهت المؤمن بالبصير والإيمان بالنور. ثم وقفهم بعد، هل رأوا خلقا لغير الله فحملهم ذلك واشتباههم بما خلق الله على أن جعلوا إلها غير الله. ثم أمر محمدا عليه الصلاة والسلام بالإفصاح بصفات الله تعالى في أنه خالق كل شيء، وهذا عموم في [ ص: 196 ] اللفظ يراد به الخصوص في كل ما هو خلق الله تعالى، ويخرج عن ذلك صفات ذاته لا رب غيره، والقرآن، ووصف نفسه بالوحدانية من حيث لا موجود إلا به، وهو في وجوده مستغن عن الموجودات، لا إله إلا هو العلي العظيم.

التالي السابق


الخدمات العلمية