الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين

                                                                                                                                                                                                                                      إذ قال الله يا عيسى ابن مريم شروع في بيان ما جرى بينه تعالى ، وبين واحد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيل ، إثر بيان ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال ، ليكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين ، وتخصيص شأن عيسى عليه السلام بالبيان ; تفصيلا من بين شئون سائر الرسل عليهم السلام ، مع دلالتها على كمال هول ذلك اليوم ، ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل ، لما أنه شأنه عليه السلام متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب ، الذين نعيت عليهم في السورة الكريمة جناياتهم ، فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسرتهم وندامتهم ، وأفت في أعضادهم ، وأدخل في صرفهم عن غيهم وعنادهم .

                                                                                                                                                                                                                                      و" إذ " بدل من " يوم يجمع الله " ... إلخ ، وصيغة الماضي لما ذكر من الدلالة على تحقق الوقوع ، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار ، لما مر من المبالغة في التهويل .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلمة " على " في قوله تعالى : اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك متعلقة بنفس النعمة إن جعلت مصدرا ; أي : اذكر إنعامي عليكما ، أو بمحذوف هو حال منها إن جعلت اسما ; أي : اذكر نعمتي كائنة عليكما ، وليس المراد بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد ، تكليفه عليه السلام شكرها والقيام بمواجبها ، ولات حين تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أي خروج ، بل إظهار أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتدادا بها ، وتلذذا بذكرها على رءوس الأشهاد ، لتكون حكاية ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم ، توبيخا ومزجرة للكفرة المختلفين في شأنه عليه السلام ، إفراطا وتفريطا وإبطالا لقولهما جميعا .

                                                                                                                                                                                                                                      إذ أيدتك ظرف لنعمتي ; أي : اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لك ، أو حال منها ; أي : اذكرها كائنة وقت تأييدي لك . وقرئ : ( آيدتك ) والمعنى واحد ; أي : قويتك .

                                                                                                                                                                                                                                      بروح القدس بجبريل عليه السلام لتثبيت الحجة ، [ ص: 95 ] أو بالكلام الذي يحيي به الدين ، وإضافته إلى " القدس " ; لأنه سبب الطهر عن أوضار الآثام ، أو يحيي به الموتى ، أو النفوس حياة أبدية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : الأرواح مختلفة الحقائق ، فمنها طاهرة نورانية ، ومنها خبيثة ظلمانية ، ومنها مشرقة ، ومنها كدرة ، ومنها حرة ، ومنها نذلة ، وكان روحه عليه السلام طاهرة مشرقة نورانية علوية ، وأيا ما كان فهو نعمة عليهما .

                                                                                                                                                                                                                                      تكلم الناس في المهد وكهلا استئناف مبين لتأييده عليه السلام ، أو حال من الكاف ، وذكر تكليمه عليه السلام في حال الكهولة ; لبيان أن كلامه عليه السلام في تينك الحالتين كان على نسق واحد بديع ، صادرا عن كمال العقل مقارنا لرزانة الرأي والتدبير به ، واستدل على أنه عليه السلام سينزل من السماء ، لما أنه عليه السلام رفع قبل التكهل .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس رضي الله عنهما : أرسله الله تعالى وهو ابن ثلاثين سنة ، ومكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله تعالى إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ علمتك الكتاب عطف على قوله تعالى : " إذ أيدتك " ، منصوب بما نصبه ; أي : اذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                      والحكمة ; أي : جنسهما .

                                                                                                                                                                                                                                      والتوراة والإنجيل خصا بالذكر مما تناوله الكتاب والحكمة إظهارا لشرفهما . وقيل : الخط والحكمة : الكلام المحكم الصواب .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ; أي : تصور منه هيئة مماثلة لهيئة الطير .

                                                                                                                                                                                                                                      بإذني بتسهيلي وتيسيري ، لا على أن يكون الخلق صادرا عنه عليه السلام حقيقة ، بل على أن يظهر ذلك على يده عليه السلام عند مباشرة الأسباب ، مع كون الخلق حقيقة لله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      كما ينبئ عنه قوله تعالى : فتنفخ فيها ; أي : في الهيئة المصورة ، فتكون ; أي : تلك الهيئة .

                                                                                                                                                                                                                                      طيرا بإذني فإن إذنه تعالى لو لم يكن عبارة عن تكوينه تعالى للطير ، بل عن محض تيسيره مع صدور الفعل حقيقة عما أسند إليه ، لكان هذا تكونا من جهة الهيئة ، وتكرير قوله : " بإذني " في الطير مع كونه شيئا واحدا ; للتنبيه على أن كلا من التصوير والنفخ أمر معظم بديع ، لا يتسنى ولا يترتب عليه شيء إلا بإذنه تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني عطف على " تخلق " .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ تخرج الموتى بإذني عطف على " إذ تخلق " ، أعيد فيه " إذ " ، لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صارت رميما ، معجزة باهرة ، ونعمة جليلة ، حقيقة بتذكير وقتها صريحا . قيل : أخرج سام بن نوح ، ورجلين ، وامرأة ، وجارية .

                                                                                                                                                                                                                                      وتكرير قوله : " بإذني " في المواضع الأربعة ; للاعتناء بتحقيق الحق ، ببيان أن تلك الخوارق ليست من قبل عيسى عليه الصلاة والسلام ، بل من جهته سبحانه ، قد أظهرها على يديه معجزة له ونعمة خصها به ، وأما ذكره في سورة آل عمران مرتين ، لما أن ذلك موضع الإخبار ، وهذا موضع تعداد النعم .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ كففت بني إسرائيل عنك عطف على " إذ تخرج " ; أي : منعت اليهود الذين أرادوا بك السوء عن التعرض لك .

                                                                                                                                                                                                                                      إذ جئتهم بالبينات بالمعجزات الواضحة مما ذكر وما لم يذكر ، كالإخبار بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ، ونحو ذلك ، وهو ظرف لكففت ، لكن لا باعتبار المجيء بها فقط ، بل باعتبار ما يعقبه من قوله تعالى : فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين فإن قولهم ذلك مما يدل على أنهم قصدوا اغتياله عليه السلام المحوج إلى الكف ; أي : كففتهم عنك حين قالوا ذلك ، عند مجيئك إياهم بالبينات ، وإنما وضع موضع ضمير هم الموصول لذمهم بما في حيز الصلة ، فكلمة " من " بيانية ، وهذا إشارة إلى ما جاء به والتذكير ; لأن إشارتهم إلى ما رأوه من نفس المسمى من حيث هو ، أو من حيث هو سحر ، لا من حيث هو مسمى بالبينات . وقرئ : ( إن هذا إلا ساحر [ ص: 96 ] مبين ) ; فهذا حينئذ إشارة إلى عيسى عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية