الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وما له حرمة من المطعومات كالخبز والعظم لا يجوز الاستنجاء به . لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بالعظم ، وقال : " هو زاد إخوانكم من الجن " فإن خالف واستنجى به لم يجزئه ، ولأن الاستنجاء بغير الماء رخصة ، والرخص لا تتعلق بالمعاصي ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما حديث النهي عن الاستنجاء بالعظم فصحيح ، رواه جماعة من الصحابة ، منهم سلمان وجابر وأبو هريرة ورويفع ، وأحاديثهم صحيحة تقدمت قريبا في الفرع . وأما قوله : وقال : " هو زاد إخوانكم من الجن " فقد رواه مسلم في صحيحه بإسناده عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل ، قال في آخره وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " { لا تستنجوا بالعظم والبعرة فإنهما طعام إخوانكم } " يعني الجن ، ورواه مسلم من طريق آخر ولم يذكر هذه الزيادة فيه ، ورواه من طريق ثالث عن داود بن أبي هند عن الشعبي ولم يذكر هذه الزيادة ، ثم قال : قال الشعبي : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " { لا تستنجوا بالعظم والبعر } " قال الترمذي : كأن هذه الرواية أصح . يعني فيكون مرسلا ( قلت ) لا يوافق الترمذي ، بل المختار أن هذه الزيادة متصلة .

                                      ( وأما حكم المسألة ) فلا يجوز الاستنجاء بعظم ولا خبز ولا غيرهما من المطعوم لما سبق ، فإن خالف واستنجى به عصى ولا يجزئه . هكذا نص عليه الشافعي وقطع به الجمهور ، وفيه وجه أنه يجزئه إن كان العظم طاهرا لا زهومة عليه ، حكاه الخراسانيون لحصول المقصود ، والصحيح الأول ; لأنه رخصة فلا تحصل بحرام ، وقد اتفقوا على تحريمه ، وإذا لم يجزئه [ ص: 136 ] المطعوم كفاه بعده الحجر بلا خلاف ، إن لم ينشر النجاسة ولم يكن على العظم زهومة . قال الماوردي : ولو أحرق عظم طاهر بالنار وخرج عن حال العظم فوجهان أحدهما : يجوز الاستنجاء به لأن النار أحالته ، والثاني : لا يجوز لعموم الحديث في النهي عن الرمة وهي العظم البالي ، ولا فرق بين البالي بنار أو مرور الزمان ، وهذا الثاني أصح والله أعلم .

                                      ( فرع ) اتفق أصحابنا على تحريم الاستنجاء بجميع المطعومات كالخبز واللحم والعظم وغيرها ، وأما الثمار والفواكه فقسمها الماوردي تقسيما حسنا فقال : منها ما يؤكل رطبا لا يابسا ، كاليقطين فلا يجوز الاستنجاء به رطبا ويجوز يابسا إذا كان مزيلا ، ومنها ما يؤكل رطبا ويابسا وهو أقسام .

                                      ( أحدها ) مأكول الظاهر والباطن كالتين والتفاح والسفرجل وغيرها ، فلا يجوز الاستنجاء بشيء منه رطبا ولا يابسا .

                                      ( والثاني ) ما يؤكل ظاهره دون باطنه كالخوخ والمشمش وكل ذي نوى فلا يجوز بظاهره ، ويجوز بنواه المنفصل .

                                      ( والثالث ) ما له قشر ومأكوله في جوفه كالرمان ، فلا يجوز الاستنجاء بلبه ، وأما قشره فله أحوال : ( أحدها ) لا يؤكل رطبا ولا يابسا كالرمان فيجوز الاستنجاء بالقشر ، وكذا لو استنجى برمانة فيها حبها جاز إذا كانت مزيلة .

                                      ( والثاني ) يؤكل قشره رطبا ويابسا كالبطيخ فلا يجوز رطبا ولا يابسا .

                                      ( والثالث ) يؤكل رطبا لا يابسا كاللوز والباقلاء ، فيجوز بقشره يابسا لا رطبا ، وأما ما يأكله الآدميون والبهائم ، فإن كان أكل البهائم له أكثر جاز ، وإن كان أكل الآدميين له أكثر لم يجز ، وإن استويا فوجهان ، من اختلاف أصحابنا في ثبوت الربا فيه ، هذا كلام الماوردي ، وذكر الروياني نحوه ، قال [ ص: 137 ] البغوي : إن استنجى بما مأكوله في جوفه كالجوز واللوز اليابس كره وأجزأه ، فإن انفصل القشر جاز الاستنجاء به بلا كراهة ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : ومن الأشياء المحتمة التي يحرم الاستنجاء بها الكتب التي فيها شيء من علوم الشرع ، فإن استنجى بشيء عالما أثم . وفي سقوط الفرض الوجهان : الصحيح لا يجزئه ، فعلى هذا تجزئه الأحجار بعده ، ولو استنجى بشيء من أوراق المصحف والعياذ بالله عالما صار كافرا مرتدا ، نقله القاضي حسين والروياني وغيرهما ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) لو استنجى بقطعة ذهب أو فضة ، ففي سقوط الفرض به وجهان ، حكاهما الماوردي وآخرون ، قال الماوردي والرافعي : الصحيح سقوطه ولو استنجى بقطعة ديباج سقط الفرض على المشهور ، وطرد الماوردي فيه الوجهين ، وطردهما أيضا في الاستنجاء بحجارة الحرم ، قال : وظاهر المذهب سقوط الفرض بكل ذلك ; لأن لماء زمزم حرمة تمنع الاستنجاء به ، ثم لو استنجى به أجزأه بالإجماع .

                                      ( فرع ) قال الشافعي في البويطي : ولا يستنجي بعظم ذكي ولا ميت للنهي عن العظم مطلقا ، وقال في الأم : ولا يستنجي بعظم للخبر ، فإنه - وإن كان غير نجس - فليس هو بنظيف ، وإنما الطهارة بنظيف طاهر ، ولا أعلم شيئا في معنى عظم إلا جلد ذكي غير مدبوغ ، فإنه ليس بنظيف ، وإن كان طاهرا ، وأما الجلد المدبوغ ، فنظيف طاهر . هذا نصه في الأم وقال في مختصر المزني : والفرق بين أن يستطيب بيمينه فيجزئه ، وبالعظم فلا يجزئ أن اليمين أداة ، والنهي عنها أدب ، والاستطابة طهارة ، والعظم ليس بطاهر . هذا نصه في المختصر ، واعترض على قوله : والعظم ليس بطاهر ، فإن العظم لا يصح الاستنجاء به طاهرا كان أو نجسا ، واختلف أصحابنا في هذا الكلام على ثلاثة أوجه : ( أحدها ) أن هذا غلط من المزني ، وإنما قال الشافعي : والعظم ليس بنظيف ، كما سبق عن الأم ، وأراد بقوله : ليس بنظيف أن عليه سهوكة ، قال الماوردي : وهذا قول أبي إسحاق المروزي ، وبه قطع القاضي أبو الطيب . [ ص: 138 ] والثاني ) أن نقل المزني صحيح ، وقوله : ليس بطاهر ، أي ليس بمطهر ، قال الماوردي : وهذا تأويل أبي علي بن أبي هريرة .

                                      ( والثالث ) أنه ذكر إحدى العلتين في العظم النجس ; لأن العظم النجس يمتنع الاستنجاء به لعلتين : إحداهما : كونه نجسا ، والأخرى كونه مطعوما والعظم الطاهر يمتنع لكونه مطعوما فقط ، قال الماوردي هذا تأويل أبي حامد الإسفراييني ، واختار الأزهري الوجه الأول ، وهو تغليط المزني وبسط الكلام فيه ، وفي الفرق بين النظيف والطاهر ، قال : فما فيه زهومة أو رائحة كريهة فهو طاهر ليس بنظيف ، وذلك كالعظم وجلد المذكى قبل الدباغ ، هذا تفصيل مذهبنا وقال أبو حنيفة ومالك : يصح الاستنجاء بالعظم ، وممن قال : لا يجوز ، أحمد وداود .




                                      الخدمات العلمية