الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 317 ] 18 - قالوا : حديث في التشبيه

        خلق آدم

        قالوا : رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله - عز وجل - خلق آدم على صورته ، والله - تبارك وتعالى - يجل عن أن يكون له صورة أو مثال .

        قال أبو محمد : ونحن نقول كما قالوا : إن الله تعالى وله الحمد يجل عن أن يكون له صورة أو مثال ، غير أن الناس ألفوا الشيء وأنسوا به فسكتوا عنده وأنكروا مثله ، ألا ترى أن الله تعالى يقول في وصفه نفسه : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وظاهر هذا يدل على أن مثله لا يشبهه شيء ومثل الشيء غير الشيء ، فقد صار على هذا الظاهر لله تعالى مثل ، ومعنى ذلك في اللغة أنه يقام المثل مقام الشيء نفسه ، فيقول القائل : مثلي لا يقال له هذا الكلام ، ومثلي لا يفتأت عليه ، لا يريد أن نظيري لا يقال له ، ولا يفتأت عليه ، وإنما يريد أنا نفسي لا يقال لي كذا وكذا ، وكذلك قوله تعالى : ليس كمثله شيء ، يريد ليس كهو شيء ، فخرج هذا مخرج كلام العرب .

        [ ص: 318 ] ويجوز أن تكون الكاف زائدة كما تقول في الكلام : كلمني بلسان كمثل السنان ، ولها بنان كمثل العنم ، وكقول الراجز :


        وصاليات ككما يؤثفين

        فأدخل الكاف على الكاف ، وهي بمعنى مثل ، وقد اضطرب الناس في تأويل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنه خلق آدم - عليه السلام - على صورته .

        فقال قوم من أصحاب الكلام : أراد خلق آدم على صورة آدم لم يزد على ذلك .

        ولو كان المراد هذا ما كان في الكلام فائدة ، ومن يشك في أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته ، والسباع على صورها ، والأنعام على صورها ، وقال قوم : إن الله تعالى خلق آدم على صورة عنده . وهذا لا يجوز لأن الله - عز وجل - لا يخلق شيئا من خلقه على مثال ، وقال قوم في الحديث : لا تقبحوا الوجه ، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته [ ص: 319 ] يريد أن الله - جل وعز - خلق آدم على صورة الوجه .

        وهذا أيضا بمنزلة التأويل الأول لا فائدة فيه ، والناس يعلمون أن الله - تبارك وتعالى - خلق آدم على خلق ولده ووجهه على وجوههم ، وزاد قوم في الحديث : إنه - عليه السلام - مر برجل يضرب وجه رجل آخر فقال : لا تضربه ، فإن الله تعالى خلق آدم - عليه السلام - على صورته ، أي : صورة المضروب . وفي هذا القول من الخلل ما في الأول .

        ولما وقعت هذه التأويلات المستكرهة وكثر التنازع فيها حمل قوما اللجاج على أن زادوا في الحديث فقالوا : روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إن الله - عز وجل - خلق آدم على صورة الرحمن ، يريدون أن تكون الهاء في صورته لله - جل وعز - ، وإن ذلك يتبين بأن يجعلوا الرحمن مكان الهاء ، كما تقول : إن الرحمن خلق آدم على صورته فركبوا قبيحا من الخطأ ، وذلك أنه لا يجوز أن نقول : إن الله تعالى خلق السماء بمشيئة الرحمن ، ولا على إرادة الرحمن ، [ ص: 320 ] [ ص: 321 ] وإنما يجوز هذا إذا كان الاسم الثاني غير الاسم الأول ، أو لو كانت الرواية : " لا تقبحوا الوجه ، فإنه خلق على صورة الرحمن " فكان الرحمن غير الله أو الله غير الرحمن ، فإن صحت رواية ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فهو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا تأويل ولا تنازع فيه .

        قال أبو محمد : ولم أر في التأويلات شيئا أقرب من الاطراد ، ولا أبعد من الاستكراه من تأويل بعض أهل النظر ، فإنه قال فيه : أراد أن الله تعالى خلق آدم في الجنة على صورته في الأرض .

        كأن قوما قالوا : إن آدم كان من طوله في الجنة كذا ومن حليته كذا ، ومن نوره كذا ، ومن طيب رائحته كذا ، لمخالفة ما يكون في الجنة ما يكون في الدنيا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله خلق آدم - يريد في الجنة - على صورته ، يعني في الدنيا ، ولست أحتم بهذا التأويل على هذا الحديث ، ولا أقضي بأنه مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ؛ لأني قرأت في التوراة أن الله - جل وعز - لما خلق السماء والأرض قال : نخلق بشرا بصورتنا ، فخلق آدم من أدمة الأرض ، ونفخ في وجهه نسمة الحياة ، وهذا لا يصلح له ذلك التأويل .

        وكذلك حديث ابن عباس أن موسى - صلى الله تعالى عليه وسلم - ضرب الحجر لبني إسرائيل فتفجر ، وقال اشربوا يا حمير ، [ ص: 322 ] فأوحى الله - تبارك وتعالى - إليه عمدت إلى خلق من خلقي خلقتهم على صورتي فشبهتهم بالحمير ، فما برح حتى عوقب ، هذا معنى الحديث .

        قال أبو محمد : والذي عندي - والله تعالى أعلم - أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين ، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن ، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن ، ونحن نؤمن بالجميع ، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية