الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              : كتاب النسخ

              وهذا كتاب النسخ

              الباب الأول : في حده وحقيقته وإثباته

              والنظر في حده وحقيقته ، ثم في إثباته على منكريه ، ثم في أركانه وشروطه وأحكامه فنرسم فيه أبوابا

              الباب الأول : في حده وحقيقته وإثباته

              أما حده : فاعلم أن النسخ عبارة عن الرفع والإزالة في وضع اللسان ، يقال : نسخت الشمس الظل ونسخت الريح الآثار ، إذا أزالتها . وقد يطلق لإرادة نسخ الكتاب ، فهو مشترك . ومقصودنا النسخ الذي هو بمعنى الرفع والإزالة ، فنقول : حده أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه . وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملا للفظ والفحوى والمفهوم وكل دليل ، إذ يجوز النسخ بجميع ذلك .

              وإنما قيدنا الحد بالخطاب المتقدم ; لأن ابتداء إيجاب العبادات في الشرع مزيل حكم العقل من براءة الذمة ، ولا يسمى نسخا ; لأنه لم يزل حكم خطاب . وإنما قيدنا بارتفاع الحكم ولم نقيد بارتفاع الأمر والنهي ليعم جميع أنواع الحكم من الندب والكراهة والإباحة ، فجميع ذلك قد ينسخ .

              وإنما قلنا لولاه لكان الحكم ثابتا به ; لأن حقيقة النسخ الرفع ، فلو لم يكن هذا ثابتا لم يكن هذا رافعا ; لأنه إذا ورد أمر بعبادة مؤقتة وأمر بعبادة أخرى بعد تصرم ذلك الوقت لا يكون الثاني نسخا ، فإذا قال : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } ثم قال : في الليل لا تصوموا لا يكون ذلك نسخا بل الرافع ما لا يرتفع الحكم لولاه . وإنما قلنا مع تراخيه عنه ; لأنه لو اتصل به لكان بيانا وإتماما لمعنى الكلام وتقديرا له بمدة أو شرط .

              وإنما يكون رافعا إذا ورد بعد أن ورد الحكم واستقر بحيث يدوم لولا الناسخ . وأما الفقهاء فإنهم لم يعقلوا الرفع لكلام الله تعالى فقالوا في حد النسخ : إنه الخطاب الدال الكاشف عن مدة العبادة أو عن زمن انقطاع العبادة ، وهذا يوجب أن يكون قوله : صم بالنهار [ ص: 87 ] وكل بالليل نسخا ، وقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } نسخا .

              وليس فيه معنى الرفع . ولا يغنيهم أن يزيدوا شرط التراخي ، فإن قوله الأول إذا لم يتناول إلا النهار فهو متقاعد عن الليل بنفسه ، فأي معنى لنسخه ؟ وإنما يرفع ما دخل تحت الخطاب الأول وأريد باللفظ الدلالة عليه وما ذكروه تخصيص وسنبين وجه مفارقة النسخ للتخصيص ، بل سنبين أن الفعل الواحد إذا أمر به في وقت واحد يجوز نسخه قبل التمكن من الامتثال وقبل وقته فلا يكون بيانا لانقطاع مدة العبادة .

              وأما المعتزلة فإنهم حدوه بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا ، وربما أبدلوا لفظ الزائل بالساقط ، وربما أبدلوه بالغير الثابت كل ذلك حذرا من الرفع ، وحقيقة النسخ الرفع فكأنهم أخلوا الحد عن حقيقة المحدود .

              فإن قيل : تحقيق معنى الرفع في الحكم يمتنع من خمسة أوجه .

              الأول : أن المرفوع إما حكم ثابت أو ما لا ثبات له ، والثابت لا يمكن رفعه وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه ، فدل أن النسخ هو رفع مثل الحكم الثابت لا رفع عينه أو هو بيان لمدة العبادة كما قاله الفقهاء

              الثاني : أن كلام الله تعالى قديم عندكم والقديم لا يتصور رفعه .

              الثالث : أن ما أثبته الله تعالى إنما أثبته لحسنه ، فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال

              الرابع : أن ما أمر به أراد وجوده فما كان مرادا كيف ينهى عنه حتى يصير مراد العدم مكروها .

              الخامس : أنه يدل على البداء ، فإنه نهى عنه بعدما أمر به فكأنه بدأ له فيما كان قد حكم به وندم عليه . فالاستحالة الأولى من جهة استحالة نفس الرفع ، والثانية من جهة قدم الكلام ، والثالثة من جهة صفة ذات المأمور في كونه حسنا قبيحا ، والرابعة من جهة الإرادة المقترنة بالأمر ، والخامسة من جهة العلم المتعلق به وظهور البداء بعده .

              والجواب عن الأول : أن الرفع من المرفوع كالكسر من المكسور وكالفسخ من العقد ، إذ لو قال قائل : ما معنى كسر الآنية وإبطال شكلها من تربيع وتسديس وتدوير ، فإن الزائل بالكسر تدوير موجود أو معدوم والمعدوم لا حاجة إلى إزالته والموجود لا سبيل إلى إزالته ؟ فيقال : معناه أن استحكام شكل الآنية يقتضي بقاء صورتها دائما لولا ما ورد عليه من السبب الكاسر ، فالكاسر قطع ما اقتضاه استحكام بنية الآنية دائما لولا الكسر ، فكذلك الفسخ يقطع حكم العقد من حيث إن الذي ورد عليه لولاه لدام ، فإن البيع سبب للملك مطلقا بشرط أن لا يطرأ قاطع .

              وليس طريان القاطع من الفسخ مبينا لنا أن البيع في وقته انعقد مؤقتا ممدودا إلى غاية الفسخ ، فإنا نعقل أن نقول بعتك هذه الدار سنة ونعقل أن نقول بعتك وملكتك أبدا ثم نفسخ بعد انقضاء السنة وندرك الفرق بين الصورتين . وأن الأول وضع لملك قاصر بنفسه ، والثاني وضع لملك مطلق مؤبد إلى أن يقطع بقاطع ، فإذا فسخ كان الفسخ قاطعا لحكمه الدائم بحكم العقد لولا القاطع لا بيانا لكونه في نفسه قاصرا .

              وبهذا يفارق النسخ التخصيص ، فإن التخصيص يبين لنا أن اللفظ ما أريد به الدلالة إلا على البعض والنسخ يخرج عن اللفظ ما أريد به الدلالة عليه ، ولأجل خفاء معنى الرفع أشكل على الفقهاء ووقعوا في إنكاره معنى النسخ . وأما الجواب عن الثاني وهو استحالة رفع الكلام القديم ، فهو فاسد ، إذ ليس معنى النسخ رفع الكلام بل قطع تعلقه بالمكلف والكلام [ ص: 88 ] القديم يتعلق بالقادر العاقل ، فإذا طرأ العجز والجنون زال التعلق ، فإذا عاد العقل والقدرة عاد التعلق ، والكلام القديم لا يتغير في نفسه ، فالعجز والموت سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب عنه ، والنسخ سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب ، كما أن حكم البيع وهو ملك المشتري إياه تارة ينقطع بموت العبد المبيع وتارة بفسخ العاقد .

              ولأجل خفاء هذه المعاني أنكر طائفة قدم الكلام . وأما الجواب عن الثالث ، وهو انقلاب الحسن قبيحا فقد أبطلنا معنى الحسن والقبح وإنه لا معنى لهما ، وهذا أولى من الاعتذار بأن الشيء يجوز أن يحسن في وقت ويقبح في وقت ; لأنه قد قال في رمضان : لا تأكل بالنهار وكل بالليل ، لأن النسخ ليس مقصورا عندنا على مثل ذلك ، بل يجوز أن يأمر بشيء واحد في وقت وينهى عنه قبل دخول الوقت فيكون قد نهى عما أمر به كما سيأتي .

              وأما الجواب عن الرابع ، وهو صيرورة المراد مكروها ، فهو باطل ; لأن الأمر عندنا يفارق الإرادة . فالمعاصي مرادة عندنا وليست مأمورا بها ، وسيأتي تحقيقه في كتاب الأوامر . وأما الجواب عن الخامس وهو لزوم البداء ، فهو فاسد ; لأنه إن كان المراد أنه يلزم من النسخ أن يحرم ما أباح وينهى عما أمر فذلك جائز { يمحو الله ما يشاء ويثبت } ولا تناقض فيه ، كما أباح الأكل بالليل وحرمه بالنهار ، وإن كان المراد أنه انكشف له ما لم يكن عالما به فهو محال ، ولا يلزم ذلك من النسخ ، بل يعلم الله تعالى أنه يأمرهم بأمر مطلق ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم ثم يقطع التكليف بنسخه عنهم فينسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه ، وليس فيه تبين بعد جهل .

              فإن قيل فهم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ أو أبدا ؟ فإن كان إلى وقت النسخ فالنسخ قد بين وقت العبادة كما قاله الفقهاء ، وإن كانوا مأمورين أبدا فقد تغير علمه ومعلومه . قلنا هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو قطع الحكم المطلق عنهم الذي لولاه لدام الحكم ، كما يعلم الله تعالى البيع المطلق مفيدا للملك إلى أن ينقطع بالفسخ ولا يعلم البيع في نفسه قاصرا على مدة بل يعلمه مقتضيا لملك مؤبد بشرط أن لا يطرأ قاطع ، لكن يعلم أن النسخ سيكون فينقطع الحكم لانقطاع شرطه لا لقصوره في نفسه .

              فليس إذا في النسخ لزوم البداء ، ولأجل قصور فهم اليهود عن هذا أنكروا النسخ ، ولأجل قصور فهم الروافض عنه ارتكبوا البداء ، ونقلوا عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخبر عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيه فيغيره ، وحكوا عن جعفر بن محمد أنه قال : ما بدا الله في شيء كما بدا له في إسماعيل أي في أمره بذبحه . وهذا هو الكفر الصريح ونسبة الإله تعالى إلى الجهل والتغير .

              ويدل على استحالته ما دل على أنه محيط بكل شيء علما وأنه ليس محلا للحوادث والتغيرات . وربما احتجوا بقوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } وإنما معناه أنه يمحو الحكم المنسوخ ويثبت الناسخ أو يمحو السيئات بالتوبة ، كما قال تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } ، ويمحو الحسنات بالكفر والردة ، أو يمحو ما ترفع إليه الحفظة من المباحات ويثبت الطاعات .

              فإن قيل : فما الفرق بين التخصيص والنسخ ؟ قلنا : هما مشتركان من وجه ، إذ كل واحد يوجب اختصاص الحكم ببعض ما تناول اللفظ ، لكن التخصيص بيان أن ما أخرج عن عموم الصيغة ما أريد باللفظ الدلالة عليه ، والنسخ [ ص: 89 ] يخرج عن اللفظ ما قصد به الدلالة عليه ، فإن قوله : افعل أبدا يجوز أن ينسخ وما أريد باللفظ بعض الأزمنة بل الجميع ، لكن بقاؤه مشروط بأن لا يرد ناسخ كما إذا قال : ملكتك أبدا ، ثم يقول : فسخت ، فالفسخ هذا إبداء ما ينافي شرط استمرار الحكم بعد ثبوته وقصد الدلالة عليه باللفظ ، فلذلك يفترقان في خمسة أمور :

              الأول : أن الناسخ يشترط تراخيه ، والتخصيص يجوز اقترانه ; لأنه بيان بل يجب اقترانه عند من لا يجوز تأخير البيان .

              الثاني : أن التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد والنسخ يدخل عليه .

              والثالث : أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب ، والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع .

              الرابع : أن التخصيص يبقي دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة كان أو مجازا على ما فيه من الاختلاف ، والنسخ يبطل دلالة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية .

              الخامس : أن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس ، وخبر الواحد وسائر الأدلة ، ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع ، وليس من الفرق الصحيح قول بعضهم إن النسخ لا يتناول إلا الأزمان والتخصيص يتناول الأزمان والأعيان والأحوال ، وهذا تجوز واتساع ; لأن الأعيان والأزمان ليست من أفعال المكلفين ، والنسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان والتخصيص أيضا يرد على الفعل في بعض الأحوال ، فإذا قال : اقتلوا المشركين إلا المعاهدين ، معناه : لا تقتلوهم في حالة العهد واقتلوهم في حالة الحرب ، والمقصود أن ورود كل واحد منهما على الفعل .

              وهذا القدر كاف في الكشف عن حقيقة النسخ .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية