الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1808 [ ص: 217 ] حديث ثالث وثلاثون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من اقتنى إلا كلبا ضاريا أو كلب ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان .

التالي السابق


هكذا قال يحيى : من اقتنى إلا كلبا ، وغيره يقول من اقتنى كلبا إلا كلبا ضاريا ، أو كلب ماشية وقال القعنبي فيه من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية ، أو ضاريا ، والمعنى واحد كله وروى هذا الحديث يحيى ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر وتابعه جماعة ويرويه قوم أيضا ، عن مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، والحديث عند مالك عنهما جميعا ، عن ابن عمر ، وقد جمعهما ابن وهب ، وغيره عنه بالإسنادين جميعا ، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى بن محمد ، قال : حدثنا علي بن محمد بن مسرور الدباغ ، قال : حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا سحنون بن سعيد ، قال : حدثنا سحنون بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب قال : أخبرني مالك ، عن نافع وعبد الله [ ص: 218 ] بن دينار ، عن ابن عمر ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من اقتنى كلبا إلا كلبا ضاريا ، أو صاحب ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان إلا ابن دينار قال : من عمله .

وفي هذا الحديث من الفقه إباحة اتخاذ الكلاب للصيد ، والماشية ، وكراهية اتخاذها لغير ذلك ، وقد روى أبو هريرة ، وعبد الله بن مغفل ، وسفيان بن أبي زهير الشنائي ، وغيرهم هذا الحديث ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فزادوا فيه ذكر كلب الحرث ، وبعضهم يقول فيه من اقتنى كلبا لا يعني به زرعا ، ولا ضرعا فزادوا فيه الزرع : حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا علي بن مسرور ، قال : حدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا سحنون ، قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من اقتنى [ ص: 219 ] كلبا ليس بكلب صيد ، ولا ماشية ، ولا أرض ، فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم .

أخبرني محمد بن عبد الملك وعبيد بن محمد قالا : حدثنا عبد الله بن مسرور ، قال : حدثنا عيسى بن مسكين ، قال : حدثنا محمد بن سنجر ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن يونس ، عن الحسن ، عن عبد الله بن معقل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من اتخذ كلبا ليس كلب صيد ، ولا ماشية ، ولا حرث نقص من أجره كل يوم قيراط ، وقال : اقتلوا منها كل أسود بهيم ، وقد ذكرنا حديث سفيان بن أبي زهير في باب هشام بن عروة ، لأنه من رواية مالك ، وفي معنى هذا الحديث تدخل عندي إباحة اقتناء الكلاب للمنافع كلها ودفع المضار إذا احتاج الإنسان إلى ذلك إلا أنه مكروه اقتناؤها في غير الوجوه المذكورة في هذه الآثار لنقصان أجر مقتنيها - والله أعلم - .

وقد أجاز مالك ، وغيره من الفقهاء اقتناء الكلاب للزرع ، والصيد ، والماشية ، ولم يجز ابن عمر اقتناءه للزرع ، ووقف عندما سمع ، وزيادة من زاد في هذا الحديث الحرث ، والزرع مقبولة فلا بأس باقتناء الكلاب للزرع ، والكرم ، وإنها داخلة في معنى الحرث ، وكذلك ما كان مثل ذلك كما [ ص: 220 ] يقتنى للصيد ، والماشية وما أشبه ذلك ، وإنما كره من ذلك اقتناؤها لغير منفعة وحاجة وكيدة فيكون حينئذ فيه ترويع الناس ، وامتناع دخول الملائكة في البيت ، والموضع الذي فيه الكلب ، فمن هاهنا - والله أعلم - كره اتخاذها ، وأما اتخاذها للمنافع فما أظن شيئا من ذلك مكروها ، لأن الناس يستعملون اتخاذها للمنافع ، ودفع المضرة قرنا بعد قرن في كل مصر وبادية فيما بلغنا - والله أعلم - .

وبالأمصار علماء ينكرون المنكر ويأمرون بالمعروف ، ويسمع السلطان منهم فما بلغنا عنهم تغيير ذلك إلا عند أذى يحدث من عقر الكلب ونحوه ، وإن كنت ما أحب لأحد أن يتخذ كلبا ، ولا يقتنيه إلا لصيد ، أو ماشية في بادية ، أو ما يجري مجرى البادية من المواضع المخوف فيها الطرق ، والسرق فيجوز حينئذ اتخاذ الكلاب فيها للزرع ، وغيره لما يخشى من عادية الوحش ، وغيره - والله أعلم - .

وقد سئل هشام بن عروة عن الكلب يتخذ للدار فقال : لا بأس به إذا كانت الدار مخوفة ، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا علي بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن أبي سليمان ، قال : حدثنا سحنون ، قال : حدثنا ابن وهب قال : حدثني عمرو بن محمد أن سالم بن عبد الله بن عمر حدثه ، عن أبيه قال : وعد جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فراث عليه حتى اشتد على [ ص: 221 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقيه فشكا إليه ما وجد فقال : إننا لا ندخل بيتا فيه كلب ، ولا صورة قال ابن وهب : وأخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن ابن السباق ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله قال : وأخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله أنه سمع ابن عباس يقول سمعت أبا طلحة يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ، ولا صورة قال : وحدثني ابن أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن كريب مولى ابن عباس ، عن أسامة بن زيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله فلهذا - والله أعلم - وما أشبهه كره اتخاذ الكلاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقد اختلف في هذا الحديث فقيل هو خصوص لجبريل وحده - صلى الله عليه وسلم - بدليل الحفظة وقيل بل الملائكة على عموم الحديث - والله أعلم - .

وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث نقص من عمله ، أو من أجره يريد من أجر عمله كل يوم قيراطان دليل على أن اتخاذها ليس بمحرم ، لأن ما كان محرما اتخاذه لم يجز اتخاذه ، ولا اقتناؤه على حال نقص من الأجر ، أو لم ينقص [ ص: 222 ] ، وليس هذا سبيل النهي عن المحرمات أن يقال : فيها من فعل كذا ولكن هذا اللفظ يدل - والله أعلم - على كراهية لا على تحريم ، ووجه قوله عليه السلام في هذا الحديث من نقصان الأجر محمول عندي - والله أعلم - على أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعا إذا ولغت فيه لا يكاد يقام بها ولا يكاد يتحفظ منها ، لأن متخذها لا يسلم من ولوغها في إنائه ولا يكاد يؤدي حق الله في عبادة الغسلات من ذلك الولوغ فيدخل عليه الإثم ، والعصيان فيكون ذلك نقصا في أجره بدخول السيئات عليه ، وقد يكون ذلك من أجل أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ونحو ذلك ، وقد يكون ذلك بذهاب أجره في إحسانه إلى الكلاب ، لأن معلوما أن في الإحسان إلى كل ذي كبد رطبة أجرا لكن الإحسان إلى الكلب ينقص الأجر فيه ، أو يبلغه ما يلحق مقتنيه ومتخذه من السيئات بترك أدبه لتلك العبادات في التحفظ من ولوغه ، والتهاون بالغسلات منه ونحو ذلك مثل ترويع المسلم ، وشبهه - والله أعلم - بما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله ذلك روى حماد بن زيد عن واصل مولى أبي عيينة قال : سأل الرجل الحسن فقال : يا أبا سعيد أرأيت ما ذكر من الكلب أنه ينقص من [ ص: 223 ] أجر أهله كل يوم قيراط قال : يذكر ذلك فقيل له مم ذلك يا أبا سعيد قال : لترويعه المسلم ، وذكر ابن سعدان ، عن الأصمعي قال : قال أبو جعفر المنصور : لعمرو بن عبيد ما بلغك في الكلب فقال : بلغني أنه من اقتنى كلبا لغير زرع ، ولا حراسة نقص من أجره كل يوم قيراط قال : ولم ذلك ؟ قال : هكذا جاء الحديث قال : خذها بحقها إنما ذلك ، لأنه ينبح الكلب ويروع السائل .




الخدمات العلمية