الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 666 ] قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فصل " : الاستثناء في الإيمان سنة " عند أصحابنا وأكثر أهل السنة وقالت المرجئة والمعتزلة : لا يجوز الاستثناء فيه بل هو شك ; و " الاستثناء أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله أو مؤمن أرجو أو آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله أو إن كنت تريد الإيمان الذي يعصم دمي فنعم وإن كنت تريد { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } فالله أعلم . ثم هنا " ثلاثة أقوال " إما أن يقال : الاستثناء واجب فلا يجوز القطع وهذا قول القاضي في عيون المسائل وغيره وإما أن يقال : هو مستحب ويجوز القطع باعتبار آخر وإما أن يقال : كلاهما جائز باعتبار وإنما ذكر أن الاستثناء سنة بمعنى أنه جائز ردا على من نهى عنه فإذا قلنا هو واجب فمأخذ القاضي أنه لو جاز القطع على أنا مؤمنون لكان ذلك قطعا على أنا في الجنة لأن الله وعد المؤمنين الجنة ولا يجوز القطع على الوعد بالجنة لأن من شرط ذلك الموافاة بالإيمان ولا يعلم ذلك إلا الله [ ص: 667 ] وكذلك الإيمان إنما يحصل بالموافاة ولا يعلم ذلك . ولهذا قال ابن مسعود : هلا وكل الأولى كما وكل الآخرة . يريد بذلك ما استدل به من أن رجلا قال عنده : إني مؤمن فقيل لابن مسعود هذا يزعم أنه مؤمن قال : فسلوه أفي الجنة هو أو في النار ؟ فسألوه فقال : الله أعلم فقال عبد الله : فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية . " قلت " : ويستدل أيضا على وجوب الاستثناء بقول عمر : من قال إنه مؤمن فهو كافر ومن زعم أنه في الجنة فهو في النار ومن زعم أنه عالم فهو جاهل ولما استدل المنازع بأن الاستثناء إنما يحتاج إليه لمستقبل يشك في وقوعه قال : الجواب إن هنا مستقبلا يشك في وقوعه وهو الموافاة بالإيمان ; والإيمان مرتبط بعضه ببعض فهو كالعبادة الواحدة .

                " قلت " : فحقيقة هذا القول أن الإيمان اسم للعبادة من أول الدخول فيه إلى أن يموت عليه فإذا انتقض تبين بطلان أولها كالحدث في آخر الصلاة والوطء في آخر الحج والأكل في آخر النهار ; وقول مؤمن عند الإطلاق يقتضي فعل الإيمان كله كقول مصل وصائم وحاج ; فهذا مأخذ القاضي . وقد ذكر بعدها في المعتمد " مسألة الموافاة " وهي متصلة بها وهو أن المؤمن الذي علم الله أنه يموت كافرا ; وبالعكس ; هل يتعلق رضا الله وسخطه ومحبته وبغضه بما هو عليه أو بما يوافي به . والمسألة متعلقة بالرضا والسخط : هل هو قديم أو محدث ؟ [ ص: 668 ] و " المأخذ الثاني " : أن الاسم عند الإطلاق يقتضي الكمال ; وهذا غير معلوم للمتكلم كما قال أبو العالية : أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه لا يقول إن إيماني كإيمان جبريل فإخبار الرجل عن نفسه أنه كامل الإيمان خبر بما لا يعلمه وهذا معنى قول ابن المنزل : أن المرجئة تقول إن حسناتها مقبولة وأنا لا أشهد بذلك وهذا مأخذ يصلح لوجوب الاستثناء وهذا المأخذ الثاني للقاضي فإن المنازع احتج بأنه لما لم يجز الاستثناء في الإسلام فكذلك في الإيمان . قال : والجواب أن الإسلام مجرد الشهادتين وقد أتى بهما والإيمان أقوال وأعمال لقوله { الإيمان بضع وسبعون بابا } وهو لا يتحقق كل ذلك منه .

                " المأخذ الثالث " : أن ذلك تزكية للنفس وقد قال الله : { فلا تزكوا أنفسكم } وهذا يصلح للاستحباب وإلا فإخبار الرجل بصفته التي هو عليها جائز وإن كانت مدحا وقد يصلح للإيجاب قال الأثرم في " السنة " : حدثنا أحمد بن حنبل سمعت يحيى بن سعيد يقول : ما أدركت أحدا من أصحابنا ولا بلغني إلا على الاستثناء قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن الاستثناء في الإيمان ما تقول فيه ؟ قال : أما أنا فلا أعيبه فأستثني مخافة واحتياطا ليس كما يقولون على الشك إنما يستثنى للعمل قال أبو عبد الله : قال الله : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله } أي إن هذا الاستثناء لغير شك وقد قال النبي [ ص: 669 ] صلى الله عليه وسلم { وإنا إن شاء الله بكم لاحقون } أي لم يكن يشك في هذا وقد استثنى وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم { نبعث إن شاء الله من القبر } وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم { إني والله لأرجو أن أكون أخشاكم لله } قال هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان . قلت لأبي عبد الله : فكأنك لا ترى بأسا أن لا يستثنى فقال إذا كان ممن يقول : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فهو أسهل عندي ثم قال أبو عبد الله إن قوما تضعف قلوبهم عن الاستثناء فتعجب منهم وذكر كلاما طويلا تركته . فكلام أحمد يدل على أن الاستثناء لأجل العمل وهذا " المأخذ الثاني " وأنه لغير شك في الأصل وهو يشبه " الثالث " ويقتضي أن يجوز ترك الاستثناء وأما جواز إطلاق القول بأني مؤمن فيصح إذا عنى أصل الإيمان دون كماله والدخول فيه دون تمامه كما يقول : أنا حاج وصائم لمن شرع في ذلك وكما يطلقه في قوله آمنت بالله ورسله وفي قوله : إن كنت تعني كذا وكذا أن جواز إخباره بالفعل يقتضي جواز إخباره بالاسم مع القرينة وعلى هذا يخرج ما روي عن صاحب معاذ بن جبل وما روي في حديث الحارث الذي قال " أنا مؤمن حقا " وفي حديث الوفد الذين قالوا : " نحن المؤمنون " وإن كان في الإسنادين نظر .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية