[ ص: 249 ] بَابُ الْمُبَارَزَةِ
قَالَ
الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَا بَأْسَ بِالْمُبَارَزَةِ ، وَقَدْ بَارَزَ يَوْمَ
بَدْرٍ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ ،
وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ،
وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، بِإِذْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَارَزَ
مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مَرْحَبًا يَوْمَ
خَيْبَرَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَارَزَ يَوْمَئِذٍ
الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ يَاسِرًا ،
وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ
الْخَنْدَقِ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ :
nindex.php?page=treesubj&link=24640الْمُبَارَزَةُ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَانِ : إِجَابَةٌ وَدُعَاءٌ .
فَأَمَّا الْإِجَابَةُ : فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُشْرِكُ وَيَدْعُوَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُبَارَزَةِ ، فَيُجِيبَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَبْرُزُ إِلَيْهِ ، وَهَذِهِ الْإِجَابَةُ مُسْتَحَبَّةٌ لِمَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ أَوَّلَ حَرْبٍ شَهِدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ
بَدْرٍ ، دَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ فِيهَا ثَلَاثَةٌ مِنْ مُشْرِكِي
قُرَيْشٍ ، وَهُمْ
عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَأَخُوهُ
شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَابْنُهُ
الْوَلِيدُ بِنُ عُتْبَةَ ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ مِنَ
الْأَنْصَارِ عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ ابْنَا عَفْرَاءَ ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فَقَالُوا : لِيَبْرُزْ إِلَيْنَا أَكْفَاؤُنَا فَمَا نَعْرِفُكُمْ ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ
بَنِي هَاشِمٍ ،
حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ،
وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ،
وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَمَالَ
حَمْزَةُ عَلَى
عُتْبَةَ فَقَتَلَهُ ، وَمَالَ
عَلِيٌّ عَلَى
الْوَلِيدِ فَقَتَلَهُ ، وَاخْتَلَفَ
عُبَيْدَةُ وَشَيْبَةُ ضَرْبَتَيْنِ ، أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِهَا ، فَمَاتَ
شَيْبَةُ لِوَقْتِهِ ، وَقُدَّتْ رِجْلُ
عُبْيَدَةَ وَاحْتُمِلَ حَيًّا فَمَاتَ بِالصَّفْرَاءِ ، فَقَالَ فِيهِ
كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ :
أَيَا عَيْنُ جُودِي وَلَا تَبْخَلِي بِدَمْعِكِ حَقًّا وَلَا تَنْزُرِي عَلَى سَيِّدٍ هَدَّنَا هَلْكُهُ
كَرِيمِ الْمَشَاهِدِ وَالْعُنْصُرِ عُبَيْدَةُ أَمْسَى وَلَا نَرْتَجِيهِ
لِعُرْفٍ عَرَانَا وَلَا مُنْكَرِ وَقَدْ كَانَ يَحْمِي غَدَاةَ الَقِتَالِ
لِحَامِيَةِ الْجَيْشَ بِالْمُبْتِرِ
ثُمَّ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهَا
أُحُدًا ، فَدَعَاهُ
أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ إِلَى الْمُبَارَزَةِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ ، حَلَفَ أَنْ يَقْتُلَهُ عَلَيْهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَبَرَزَ إِلَيْهِ فَرَمَاهُ بِحِرْبَةٍ كَسَرَ بِهَا أَحَدَ أَضْلَاعِهِ بِجُرْحٍ كَالْخَدْشِ ، فَاحْتُمِلَ وَهُوَ يَخُورُ كَالثَّوْرِ ، فَقِيلَ لَهُ : مَا بِكَ ؟ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَوْ تَفَلَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي ثُمَّ دَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ فِي حَرْبِ
الْخَنْدَقِ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ ، ثُمَّ دَعَا إِلَيْهَا فِي الْيَوْمِ
[ ص: 250 ] الثَّانِي فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ، ثُمَّ دَعَا إِلَيْهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ، فَلَمَّا رَأَى الْإِحْجَامَ عَنْهُ قَالَ : يَا
مُحَمَدُ ، أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنَّةِ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، وَقَتْلَانَا فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ ، فَمَا يُبَالِي أَحَدُكُمْ أَيَقْدُمُ عَلَى كَرَامَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوْ يُقْدِمُ عَدْوًا إِلَى النَّارِ ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ :
وَلَقَدْ دَنَوْتُ مِنَ النِّدَا ءِ لِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ
وَوَقَفْتُ إِذْ جَبُنَ الشُّجَا عُ بَمَوقِفِ الْقَرْنِ الْمُنَاجِزْ
إِنِّي كَذَلِكَ لَمْ أَزَلْ مُتَشَوِّقًا نَحْوَ الْهَزَاهِزْ
إِنَّ الشَّجَاعَةَ فِي الْفَتَى وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ
فَقَامَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُبَارَزَتِهِ ، فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ
: اخْرُجْ يَا عَلِيُّ فِي حِفْظِ اللَّهِ وَعِيَاذِهِ ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ :
يَا عَمْرُو وَيْحَكَ قَدْ أَتَا كَ مُجِيبُ صَوْتِكَ غَيْرَ عَاجِزْ
ذُو نِيَّةٍ وَبَصِيرَةٍ وَالصَّدْقُ مُنْجِي كُلِّ فَائِزْ
إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ أُقِي مَ عَلَيْكَ نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ
مِنْ ضَرْبَةٍ نَجْلَاءَ يَبْ قَى صِيتُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ
فَتَجَاوَلَا ، وَثَارَتْ عَجَاجَةٌ أَخْفَتْهُمَا عَنِ الْأَبْصَارِ ، ثُمَّ أَجْلَتْ عَنْهُمَا ،
وَعَلِيٌّ يَمْسَحُ سَيْفَهُ بِثَوْبِ
عَمْرٍو وَهُوَ قَتِيلٌ ، حَكَاهُ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ .
ثُمَّ دَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ
بِخَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ
مَرْحَبٌ الْيَهُودِيُّ ، فَخَرَجَ مُرْتَجِزًا يَقُولُ :
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
إِذَا اللُّيُوثُ أَقْبَلَتْ تَحَرَّبُ كَانَ حِمَايَ لِلْحِمَى لَا يُقْرَبُ
فَبَرَزَ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ ، وَاخْتُلِفَ فِي قَاتِلِهِ ، فَحَكَى
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الَّذِي بَرَزَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ
مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ
الشَّافِعِيُّ ، وَحَكَى
بُرَيْدَةُ الْأَسْلَمِيُّ أَنَّ الَّذِي بَرَزَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، خَرَجَ إِلَيْهِ مُرْتَجِزًا بِقَوْلِهِ :
أَنَّا الَذي سَمَتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ لَيْثُ غَابَاتٍ شَدِيدُ الْقَسْوَرَهْ
أَكِيلُكُمْ بِالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
وَدَعَا
يَاسِرٌ إِلَى الْمُبَارَزَةِ
بِخَيْبَرَ ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ
الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ ، فَقَالَتْ أُمُّهُ
صَفِيَّةُ : يُقْتَلُ ابْنِي ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : بَلِ ابْنُكِ يَقْتُلُهُ فَقَتَلَهُ
الزُّبَيْرُ ، فَهَذِهِ مَوَاقِفُ قَدْ أَجَابَ إِلَى
[ ص: 251 ] الْمُبَارَزَةِ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ .