الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        إذا كان لزيد عليك مائة ، ولك على عمرو مائة ، فوجد زيد منك ما يجوز له قبض مالك على عمرو ، فله صورتان .

                                                                                                                                                                        إحداها : أن تقول لزيد : وكلتك لتقبضه لي ، وقال : بل أحلتني عليه ، فينظر ، إن اختلفتما في أصل اللفظ ، فزعمت الوكالة بلفظها ، وزعم زيد الحوالة بلفظها ، فالقول قولك مع يمينك عملا بالأصل . وإن اتفقتما على جريان لفظ الحوالة ، وزعمت أنك أردت به تسليطه بالوكالة ، فوجهان . أصحهما : القول قولك ، وبه قال أكثر الأصحاب . وقال ابن سريج : القول قول زيد مع يمينه . وقطع به القاضي حسين . قال الأئمة : وموضع الوجهين أن يكون اللفظ الجاري بينكما : أحلتك بمائة على عمرو . فأما إذا قلت بالمائة التي لك علي على عمرو ، فهذا لا يحتمل إلا حقيقة الحوالة ، فالقول قول زيد قطعا . فإن قلنا : القول قول زيد ، فحلف ، ثبتت الحوالة وبرئت . وإن قلنا : القول قولك في الصورة الأولى أو الثانية على الأصح ، فحلفت ، نظر ، هل قبض زيد من عمرو ، أم لا ؟ فإن قبض ، برئت ذمة عمرو ، لدفعه إلى وكيل أو محتال . وفي وجه : لا يبرأ في صورة اتفاقكما على لفظ الحوالة . والصحيح : الأول . ثم ينظر ، فإن كان المقبوض باقيا ، لزمه تسليمه إليك . وهل له مطالبتك بحقه ؟ وجهان . أحدهما : لا ، لاعترافه ببراءتك بدعوى الحوالة . وأصحهما : نعم ؛ لأنه إن كان وكيلا ، فظاهر . وإن كان محتالا ، فقد استرجعت منه ظلما ، فلا يضيع حقه والوجهان ، في الرجوع ظاهرا . فأما بينه وبين الله تعالى ، فإنه إذا لم يصل إلى حقه عندك ، فله إمساك المأخوذ ؛ لأنه ظفر بجنس حقه من مالك وأنت ظالمه . وإن كان المقبوض تالفا ، فقد قطع الأكثرون ، بأنه لا يضمن إذا لم [ ص: 237 ] يكن التلف بتفريط ؛ لأنه وكيل في زعمك ، والوكيل أمين ، وليس له مطالبتك ؛ لأنه استوفى بزعمه . وقال في " التهذيب " : يضمن ؛ لأنه ثبتت وكالته ، والوكيل إذا أخذ المال لنفسه ، ضمن . أما إذا لم يقبض زيد من عمرو ، فليس له القبض بعد حلفك ؛ لأن الحوالة اندفعت وصار معزولا عن الوكالة بإنكاره ، ولك مطالبة عمرو بحقك . وهل لزيد مطالبتك بحقه ؟ فيه الوجهان فيما إذا قبض وسلم إليك ، قال صاحب " البيان " : ينبغي أن لا يطالبك هنا قطعا ، لاعترافه بأن حقه على عمرو ، وأن ما قبضته أنت من عمرو ، ليس حقا له ، بخلاف ما إذا قبض ، فإن حقه تعين في المقبوض ، فإذا أخذته ، أخذت ماله .

                                                                                                                                                                        الصورة الثانية : أن تقول لزيد : أحلتك على عمرو ، فيقول : بل وكلتني بقبض ما عليه ، وحقي باق . ويظهر تصوير هذا الخلاف عند إفلاس عمرو . فينظر ، إن اختلفتما في أصل اللفظ ، فالقول قول زيد مع يمينه . وإن اتفقتما على لفظ الحوالة ، جرى الوجهان السابقان في الصورة الأولى على عكس ما سبق . فعلى قول ابن سريج ، القول قولك ، مع اليمين ، وعلى قول الأكثرين ، القول قول زيد مع يمينه . فإن قلنا : قولك ، فحلفت ، برئت من دين زيد ، ولزيد مطالبة عمرو ، إما بالوكالة ، وإما بالحوالة ، وما يأخذه يكون له ، لأنك تقول : إنه حقه ، وعلى زعمه هو لك ، وحقه عليك ، فيأخذه بحقه . وحيث قلنا : القول قول زيد ، فحلف ، فإن لم يكن قبض المال من عمرو ، فليس له قبضه ؛ لأن قولك : ما وكلتك ، يتضمن عزله إن كان وكيلا ، وله مطالبتك بحقه . وهل لك الرجوع إلى عمرو ؟ وجهان . لأنك اعترفت بتحول ما عليه إلى زيد . ووجه الرجوع وهو اختيار ابن كج ، أن زيدا إن كان وكيلا فلم يقبض ، فبقي حقك . وإن كان محتالا ، فقد ظلمك بأخذه [ ص: 238 ] منك ، وما على عمرو حقه ، فلك أخذه عوضا عما ظلمك به . وإن قبض المال من عمرو ، فقد برئت ذمة عمرو . ثم إن كان المقبوض باقيا ، فقد حكى الغزالي وجهين . أحدهما : يطالبك بحقه ، ويرد المقبوض عليك . والثاني وهو الصحيح : أنه يملكه الآن وإن لم يملكه عند القبض ؛ لأنه من جنس حقه ، وصاحبه يزعم أنه ملكه . ويشبه أن لا يكون فيه خلاف محقق ، بل له أن يرده ويطالب ببدل حقه ، وله أن يأخذه بحقه . وإن تلف بتفريط ، فلك عليه الضمان ، وله عليك حقه . وربما يقع التقاص . وإن لم يكن منه تفريط ، فلا ضمان ؛ لأنه وكيل أمين . وفي وجه ضعيف : يضمن ؛ لأن الأصل فيما يتلف في يد الإنسان من ملك غيره ، الضمان ، ولا يلزم من تصديقه في نفي الحوالة ليبقى حقه ، تصديقه في إثبات الوكالة ، ليسقط عنه الضمان .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية