[ ص: 255 ] باب
nindex.php?page=treesubj&link=8421_8423فتح السواد وحكم ما يوقفه الإمام من الأرض للمسلمين
قال
الشافعي - رحمه الله - : " ولا أعرف ما أقول في أرض السواد إلا بظن مقرون إلى علم : وذلك أني وجدت أصح حديث يرويه الكوفيون عندهم في السواد ليس فيه بيان ، ووجدت أحاديث من أحاديثهم تخالفه : منها أنهم يقولون : إن السواد صلح ، ويقولون : إن السواد عنوة ، ويقولون : بعض السواد صلح وبعضه عنوة ، ويقولون : إن
جرير بن عبد الله البجلي وهذا أثبت حديث عندهم فيه ( قال
الشافعي ) : أخبرنا الثقة ، عن
إسماعيل بن أبي خالد ، عن
قيس بن أبي حازم ، عن
جرير قال : كانت
بجيلة ربع الناس ، فقسم لهم ربع السواد فاستغلوه ثلاث أو أربع سنين - شك
الشافعي - ثم قدمت على
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومعي بنت فلان - امرأة منهم قد سماها ولم يحضرني ذكر اسمها - قال
عمر : لولا أنني قاسم مسئول لتركتكم على ما قسم لكم ، ولكني أرى أن تردوا على الناس ( قال
الشافعي ) : وكان في حديثه وعاضني من حقي فيه نيفا وثمانين دينارا ، وكان في حديثه ، فقالت فلانة : قد شهد أبي
القادسية ، وثبت سهمه ، ولا أسلم حتى تعطيني كذا وكذا : فأعطاها إياه ( قال
الشافعي ) - رحمه الله - : ففي هذا الحديث دلالة إذ أعطى
جريرا عوضا من سهمه ، والمرأة عوضا من سهم أبيها على أنه استطاب أنفس الذين أوجفوا عليه فتركوا حقوقهم منه فجعله وقفا للمسلمين ، وقد سبى النبي - صلى الله عليه وسلم -
هوازن وقسم الأربعة الأخماس بين الموجفين ، ثم جاءته وفود
هوازن مسلمين فسألوه أن يمن عليهم ، وأن يرد عليهم ما أخذ منهم فخيرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الأموال والسبي ، فقالوا : خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا فنختار أحسابنا ، فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - حقه وحق أهل بيته ، فسمع بذلك المهاجرون فتركوا له حقوقهم ، وسمع بذلك
الأنصار فتركوا له حقوقهم ، ثم بقي قوم من
المهاجرين والأنصار ، فأمر فعرف على كل عشرة واحدا ، ثم قال ائتوني بطيب أنفس من بقي ، فمن كره فله علي كذا وكذا من الإبل إلى وقت ذكره ، قال : فجاءوه بطيب أنفسهم إلا
الأقرع بن حابس وعيينة بن بدر : فإنهما أتيا ليعيرا
هوازن فلم يكرههما - صلى الله عليه وسلم - على ذلك حتى كانا هما تركا بعد بأن خدع
عيينة عن حقه وسلم لهم - عليه السلام - حق من طاب نفسا عن حقه . قال : وهذا أولى
[ ص: 256 ] الأمرين
بعمر عندنا في السواد وفتوحه إن كان عنوة لا ينبغي أن يكون قسم إلا عن أمر
عمر لكبر قدره ، ولو يفوت عليه ما انبغى أن يغيب عنه قسمه ثلاث سنين ، ولو كان القسم ليس لمن قسم له ، ما كان له منه عوض ولكان عليهم أن يردوا الغلة ، والله أعلم كيف كان ، وهكذا صنع - صلى الله عليه وسلم - في
خيبر وبني قريظة لمن أوجف عليها أربعة أخماس والخمس لأهله ، فمن طاب نفسا عن حقه فجائز للإمام نظرا للمسلمين أن يجعلها وقفا عليهم تقسم غلته على أهل الفيء والصدقة وحيث يرى الإمام ومن يطب نفسا فهو أحق بماله " .
قال
الماوردي : أما أرض السواد ، فهو سواد
كسرى ملك
الفرس الذي فتحه المسلمون ، وملكوه عنوة في أيام
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد أن فتحت أطرافه في أيام
أبي بكر ، رضي الله عنه .
وحده طولا من حريثة
الموصل إلى
عبادان ، وعرضا من
عذيب القادسية إلى
حلوان ، يكون طوله مائة وستين فرسخا ، وعرضه ثمانين فرسخا ، وليست
البصرة وإن دخلت في هذا الحد من أرض السواد : لأنها مما أحياه المسلمون من الموات إلا مواضع من شرقي دجلتها يسميه أهل
البصرة الفرات . ومن غربي دجلتها للنهر المعروف بنهر المرأة ، ويسمى
بالفهرج .
وحضرت الشيخ
أبا حامد الإسفراييني ، وهو يدرس تحديد السواد في كتاب " الرهن " وأدخل فيه
البصرة ، ثم أقبل علي ، وقال : هكذا تقول ؟ قلت : لا ، قال : ولم ؟ قلت : لأنها كانت مواتا أحياه المسلمون ، فأقبل على أصحابه ، وقال : علقوا ما يقول ، فإن أهل
البصرة أعرف
بالبصرة .
وفي تسميته سوادا ثلاثة أقاويل :
أحدها : لكثرته مأخوذ من سواد القوم إذا كثروا ، وهذا قول
الأصمعي .
والثاني : لسواده بالزروع والأشجار : لأن الخضرة ترى من البعد سوادا ، ثم تظهر الخضرة بالدنو منها ، فقالوا المسلمون حين أقبلوا من بياض الفلاة : ما هذا السواد ؟ ، فسموه سوادا .
والثالث : لأن العرب تجمع بين الخضرة والسواد في الاسم ، قال
أبو عبيدة : ومنه قول الشاعر :
وراحت رواحا من زرود فصادفت زبالة جلبابا من الليل أخضرا
يعني : أسود ، وسواد
كسرى أزيد من
العراق بخمسة وثلاثين فرسخا ، فيكون
العراق أقصر من السواد بخمسه ، والسواد أطول من
العراق بربعه : لأن أول
العراق من
[ ص: 257 ] شرقي
دجلة العلث ، ومن غربيها
جربى ، وطوله مائة وخمسة وعشرون فرسخا ، وعرضه مستوعب لعرض السواد .
وسمي عراقا لاستواء أرضه حين خلت من جبال تعلو ، وأودية تنخفض ، والعراق في كلام العرب : الاستواء ، كما قال الشاعر :
سقتم إلى الحق معا وساقوا سياق من ليس له عراق
أي ليس له استواء .
وقال
قدامة بن جعفر : تكون مساحة
العراق مكسرا من ضرب طوله في عرضه عشرة آلاف فرسخ ، يصير تكسير مساحة السواد مكسرا بزيادة الربع . مساحة
العراق اثنا عشر ألف فرسخ وخمسمائة فرسخ ، ومساحة تكسير فرسخ في فرسخ اثنان وعشرون ألف جريب وخمسمائة جريب : لأن طول الفرسخ اثنا عشر ألف ذراع بالمرسلة ، ويكون بذراع المساحة ، وهي الذراع الهاشمية تسعة آلاف ذراع ، فيكون مساحة أرض
العراق ، وهي عشرة آلاف فرسخ مكسرة مائتي ألف ألف جريب ، وخمسة وعشرين ألف ألف جريب ، يزيد عليها في مساحة السواد ربعها ، فيصير مساحة السواد مائتي ألف ألف جريب وثمانين ألف ألف جريب ، يسقط منها مجاري الأنهار ، والآجام والسباخ والآكام ومواضع المدن والقرى ومدارس الطرق نحو ثلثها ، ويبقى مائتا ألف ألف جريب يراح نصفها ، ويزرع نصفها ، إذا تكاملت مصالحنا ، وعمارتها ، وذلك نحو مائة ألف ألف جريب ، ينقص عنها في مساحة
العراق خمسها ، وقد كانت مساحة المزروع في أيام
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اثنين وثلاثين ألف ألف جريب إلى ستة وثلاثين ألف ألف جريب : لأن البطائح تعطلت بالماء ، ونواحي تعطلت بالبتوق ، وفي المتقدرات تتكامل جميع العبارات حتى تستوعب من زرعها ، لأن العوارض والحوادث لا يخلو الزمان منها خصوصا وعموما .
[ ص: 255 ] بَابُ
nindex.php?page=treesubj&link=8421_8423فَتْحِ السَّوَادِ وَحُكْمُ مَا يُوقِفُهُ الْإِمَامُ مِنَ الْأَرْضِ لِلْمُسْلِمِينَ
قَالَ
الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " وَلَا أَعْرِفُ مَا أَقُولُ فِي أَرْضِ السَّوَادِ إِلَّا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ إِلَى عِلْمٍ : وَذَلِكَ أَنِّي وَجَدْتُ أَصَحَّ حَدِيثٍ يَرْوِيهِ الْكُوفِيُّونَ عِنْدَهُمْ فِي السَّوَادِ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ ، وَوَجَدْتُ أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ تُخَالِفُهُ : مِنْهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ السَّوَادَ صُلْحٌ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّ السَّوَادَ عَنْوَةٌ ، وَيَقُولُونَ : بَعْضُ السَّوَادِ صُلْحٌ وَبَعْضُهُ عَنْوَةٌ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّ
جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ وَهَذَا أَثْبَتُ حَدِيثٍ عِنْدَهُمْ فِيهِ ( قَالَ
الشَّافِعِيُّ ) : أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنْ
قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ
جَرِيرٍ قَالَ : كَانَتْ
بَجِيلَةُ رُبْعَ النَّاسِ ، فَقُسِّمَ لَهُمْ رُبْعُ السَّوَادِ فَاسْتَغَلُّوهُ ثَلَاثَ أَوْ أَرْبَعَ سِنِينَ - شَكَّ
الشَّافِعِيُّ - ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعِي بِنْتُ فُلَانٍ - امْرَأَةٌ مِنْهُمْ قَدْ سَمَّاهَا وَلَمْ يَحْضُرْنِي ذِكْرُ اسْمِهَا - قَالَ
عُمَرُ : لَوْلَا أَنَّنِي قَاسِمٌ مَسْئُولٌ لَتَرَكْتُكُمْ عَلَى مَا قُسِمَ لَكُمْ ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تَرُدُّوا عَلَى النَّاسِ ( قَالَ
الشَّافِعِيُّ ) : وَكَانَ فِي حَدِيثِهِ وَعَاضَنِي مِنْ حَقِّي فِيهِ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ دِينَارًا ، وَكَانَ فِي حَدِيثِهِ ، فَقَالَتْ فُلَانَةُ : قَدْ شَهِدَ أَبِي
الْقَادِسِيَّةَ ، وَثَبَتَ سَهْمُهُ ، وَلَا أُسْلِمُ حَتَّى تُعْطِيَنِي كَذَا وَكَذَا : فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ ( قَالَ
الشَّافِعِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ إِذْ أَعْطَى
جَرِيرًا عِوَضًا مِنْ سَهْمِهِ ، وَالْمَرْأَةَ عِوَضًا مِنْ سَهْمِ أَبِيهَا عَلَى أَنَّهُ اسْتَطَابَ أَنْفُسَ الَّذِينَ أَوْجَفُوا عَلَيْهِ فَتَرَكُوا حُقُوقَهُمْ مِنْهُ فَجَعَلَهُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ سَبَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
هَوَازِنَ وَقَسَّمَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْمُوجِفِينَ ، ثُمَّ جَاءَتْهُ وُفُودُ
هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمُ ، وَأَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ فَخَيَّرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالسَّبْيِ ، فَقَالُوا : خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا وَأَمْوَالِنَا فَنَخْتَارُ أَحْسَابَنَا ، فَتَرَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقَّهُ وَحَقَّ أَهْلِ بَيْتِهِ ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ الْمُهَاجِرُونَ فَتَرَكُوا لَهُ حُقُوقَهُمْ ، وَسَمِعَ بِذَلِكَ
الْأَنْصَارُ فَتَرَكُوا لَهُ حُقُوقَهُمْ ، ثُمَّ بَقِيَ قَوْمٌ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، فَأَمَرَ فَعَرَّفَ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ وَاحِدًا ، ثُمَّ قَالَ ائْتُونِي بِطِيبِ أَنْفُسِ مَنْ بَقِيَ ، فَمَنْ كَرِهَ فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْإِبِلِ إِلَى وَقْتٍ ذَكَرَهُ ، قَالَ : فَجَاءُوهُ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ إِلَّا
الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ : فَإِنَّهُمَا أَتَيَا لِيُعِيرَا
هَوَازِنَ فَلَمْ يُكْرِهْهُمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كَانَا هُمَا تَرَكَا بَعْدُ بِأَنْ خَدَعَ
عُيَيْنَةُ عَنْ حَقِّهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَقَّ مَنْ طَابَ نَفْسًا عَنْ حَقِّهِ . قَالَ : وَهَذَا أَوْلَى
[ ص: 256 ] الْأَمْرَيْنِ
بِعُمَرَ عِنْدَنَا فِي السَّوَادِ وَفُتُوحِهِ إِنْ كَانَ عَنْوَةً لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قُسِّمَ إِلَّا عَنْ أَمْرِ
عُمَرَ لِكِبَرِ قَدْرِهِ ، وَلَوُ يَفُوتُ عَلَيْهِ مَا انْبَغَى أَنْ يَغِيبَ عَنْهُ قَسْمُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ ، وَلَوْ كَانَ الْقَسْمُ لَيْسَ لِمَنْ قُسِّمَ لَهُ ، مَا كَانَ لَهُ مِنْهُ عِوَضٌ وَلَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا الْغَلَّةَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ ، وَهَكَذَا صَنَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
خَيْبَرَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ لِمَنْ أَوْجَفَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ وَالْخُمْسُ لِأَهْلِهِ ، فَمَنْ طَابَ نَفْسًا عَنْ حَقِّهِ فَجَائِزٌ لِلْإِمَامِ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْعَلَهَا وَقْفًا عَلَيْهِمْ تُقَسَّمُ غَلَّتُهُ عَلَى أَهْلِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَةِ وَحَيْثُ يَرَى الْإِمَامُ وَمَنْ يَطِبْ نَفْسًا فَهُوَ أَحَقُّ بِمَالِهِ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : أَمَّا أَرْضُ السَّوَادِ ، فَهُوَ سَوَادُ
كِسْرَى مَلِكِ
الْفُرْسِ الَّذِي فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَمَلَكُوهُ عَنْوَةً فِي أَيَّامِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ أَطْرَافُهُ فِي أَيَّامِ
أَبِي بَكْرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَحَدُّهُ طُولًا مِنْ حُرَيْثَةِ
الْمَوْصِلِ إِلَى
عَبَّادَانِ ، وَعَرْضًا مِنْ
عُذَيْبِ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى
حُلْوَانَ ، يَكُونُ طُولُهُ مِائَةً وَسِتِّينَ فَرْسَخًا ، وَعَرْضُهُ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا ، وَلَيْسَتِ
الْبَصْرَةُ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي هَذَا الْحَدِّ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ : لِأَنَّهَا مِمَّا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَوَاتِ إِلَّا مَوَاضِعَ مِنْ شَرْقِيِّ دَجْلَتِهَا يُسَمِّيهِ أَهْلُ
الْبَصْرَةِ الْفُرَاتُ . وَمِنْ غَرْبِيِّ دَجْلَتِهَا لِلنَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِنَهْرِ الْمَرْأَةِ ، وَيُسَمَّى
بِالْفَهْرَجِ .
وَحَضَرْتُ الشَّيْخَ
أَبَا حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِي ، وَهُوَ يُدَرِّسُ تَحْدِيدَ السَّوَادِ فِي كِتَابِ " الرَّهْنِ " وَأَدْخَلَ فِيهِ
الْبَصْرَةَ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ ، وَقَالَ : هَكَذَا تَقُولُ ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : وَلِمَ ؟ قُلْتُ : لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوَاتًا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ ، فَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ ، وَقَالَ : عَلِّقُوا مَا يَقُولُ ، فَإِنَّ أَهْلَ
الْبَصْرَةِ أَعْرَفُ
بِالْبَصْرَةِ .
وَفِي تَسْمِيَتِهِ سَوَادًا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ :
أَحَدُهَا : لِكَثْرَتِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ سَوَادِ الْقَوْمِ إِذَا كَثُرُوا ، وَهَذَا قَوْلُ
الْأَصْمَعِيِّ .
وَالثَّانِي : لِسَوَادِهِ بِالزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ : لِأَنَّ الْخُضْرَةَ تُرَى مِنَ الْبُعْدِ سَوَادًا ، ثُمَّ تَظْهَرُ الْخُضْرَةُ بِالدُّنُوِّ مِنْهَا ، فَقَالُوا الْمُسْلِمُونَ حِينَ أَقْبَلُوا مِنْ بَيَاضِ الْفَلَاةِ : مَا هَذَا السَّوَادُ ؟ ، فَسَمَّوْهُ سَوَادًا .
وَالثَّالِثُ : لِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْخُضْرَةِ وَالسَّوَادِ فِي الِاسْمِ ، قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ : وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
وَرَاحَتْ رَوَاحًا مِنْ زُرُودٍ فَصَادَفَتْ زُبَالَةَ جِلْبَابًا مِنَ اللَّيْلِ أَخْضَرَا
يَعْنِي : أَسْوَدَ ، وَسَوَادُ
كِسْرَى أَزْيَدُ مِنَ
الْعِرَاقِ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ فَرْسَخًا ، فَيَكُونُ
الْعِرَاقُ أَقْصَرَ مِنَ السَّوَادِ بِخُمْسِهِ ، وَالسَّوَادُ أَطْوَلَ مِنَ
الْعِرَاقِ بِرُبْعِهِ : لِأَنَّ أَوَّلَ
الْعِرَاقِ مِنْ
[ ص: 257 ] شَرْقِيِّ
دِجْلَةَ الْعَلْثُ ، وَمِنْ غَرْبِيِّهَا
جَرْبَى ، وَطُولُهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَرْسَخًا ، وَعَرْضُهُ مُسْتَوْعِبٌ لِعَرْضِ السَّوَادِ .
وَسُمِّيَ عِرَاقًا لِاسْتِوَاءِ أَرْضِهِ حِينَ خَلَتْ مِنْ جِبَالٍ تَعْلُو ، وَأَوْدِيَةٍ تَنْخَفِضُ ، وَالْعِرَاقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ : الِاسْتِوَاءُ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
سُقْتُمْ إِلَى الْحَقِّ مَعًا وَسَاقُوا سِيَاقَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عِرَاقُ
أَيْ لَيْسَ لَهُ اسْتِوَاءٌ .
وَقَالَ
قُدَامَةُ بْنُ جَعْفَرٍ : تَكُونُ مِسَاحَةُ
الْعِرَاقِ مُكَسَّرًا مِنْ ضَرْبِ طُولِهِ فِي عُرْضِهِ عَشَرَةَ آلَافِ فَرْسَخٍ ، يَصِيرُ تَكْسِيرُ مِسَاحَةِ السَّوَادِ مُكَسَّرًا بِزِيَادَةِ الرُّبْعِ . مِسَاحَةُ
الْعِرَاقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ فَرْسَخٍ وَخَمْسُمِائَةِ فَرْسَخٍ ، وَمِسَاحَةُ تَكْسِيرِ فَرْسَخٍ فِي فَرْسَخٍ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَلْفَ جَرِيبٍ وَخَمْسُمِائَةِ جَرِيبٍ : لِأَنَّ طُولَ الْفَرْسَخِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ ذِرَاعٍ بِالْمُرْسَلَةِ ، وَيَكُونُ بِذِرَاعِ الْمِسَاحَةِ ، وَهِيَ الذِّرَاعُ الْهَاشِمِيَّةُ تِسْعَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ ، فَيَكُونُ مِسَاحَةُ أَرْضِ
الْعِرَاقِ ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ فَرْسَخٍ مُكَسَّرَةً مِائَتَيْ أَلْفِ أَلْفِ جَرِيبٍ ، وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ ، يَزِيدُ عَلَيْهَا فِي مِسَاحَةِ السَّوَادِ رُبْعُهَا ، فَيَصِيرُ مِسَاحَةُ السَّوَادِ مِائَتَيْ أَلْفِ أَلْفِ جَرِيبٍ وَثَمَانِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ ، يَسْقُطُ مِنْهَا مَجَارِي الْأَنْهَارِ ، وَالْآجَامُ وَالسِّبَاخُ وَالْآكَامُ وَمَوَاضِعُ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَمَدَارِسُ الطُّرُقِ نَحْوَ ثُلْثِهَا ، وَيَبْقَى مِائَتَا أَلْفِ أَلْفِ جَرِيبٍ يُرَاحُ نِصْفُهَا ، وَيُزْرَعُ نِصْفُهَا ، إِذَا تَكَامَلَتْ مَصَالِحُنَا ، وَعِمَارَتُهَا ، وَذَلِكَ نَحْوُ مِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ جَرِيبٍ ، يَنْقُصُ عَنْهَا فِي مِسَاحَةِ
الْعِرَاقِ خُمْسُهَا ، وَقَدْ كَانَتْ مِسَاحَةُ الْمَزْرُوعِ فِي أَيَّامِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ إِلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ : لِأَنَّ الْبَطَائِحَ تَعَطَّلَتْ بِالْمَاءِ ، وَنَوَاحِيَ تَعَطَّلَتْ بِالْبَتُوقِ ، وَفِي الْمُتَقَدِّرَاتِ تَتَكَامَلُ جَمِيعُ الْعِبَارَاتِ حَتَّى تَسْتَوْعِبَ مَنْ زَرَعَهَا ، لِأَنَّ الْعَوَارِضَ وَالْحَوَادِثَ لَا يَخْلُو الزَّمَانُ مِنْهَا خُصُوصًا وَعُمُومًا .