الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 255 ] باب فتح السواد وحكم ما يوقفه الإمام من الأرض للمسلمين

                                                                                                                                            قال الشافعي - رحمه الله - : " ولا أعرف ما أقول في أرض السواد إلا بظن مقرون إلى علم : وذلك أني وجدت أصح حديث يرويه الكوفيون عندهم في السواد ليس فيه بيان ، ووجدت أحاديث من أحاديثهم تخالفه : منها أنهم يقولون : إن السواد صلح ، ويقولون : إن السواد عنوة ، ويقولون : بعض السواد صلح وبعضه عنوة ، ويقولون : إن جرير بن عبد الله البجلي وهذا أثبت حديث عندهم فيه ( قال الشافعي ) : أخبرنا الثقة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير قال : كانت بجيلة ربع الناس ، فقسم لهم ربع السواد فاستغلوه ثلاث أو أربع سنين - شك الشافعي - ثم قدمت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومعي بنت فلان - امرأة منهم قد سماها ولم يحضرني ذكر اسمها - قال عمر : لولا أنني قاسم مسئول لتركتكم على ما قسم لكم ، ولكني أرى أن تردوا على الناس ( قال الشافعي ) : وكان في حديثه وعاضني من حقي فيه نيفا وثمانين دينارا ، وكان في حديثه ، فقالت فلانة : قد شهد أبي القادسية ، وثبت سهمه ، ولا أسلم حتى تعطيني كذا وكذا : فأعطاها إياه ( قال الشافعي ) - رحمه الله - : ففي هذا الحديث دلالة إذ أعطى جريرا عوضا من سهمه ، والمرأة عوضا من سهم أبيها على أنه استطاب أنفس الذين أوجفوا عليه فتركوا حقوقهم منه فجعله وقفا للمسلمين ، وقد سبى النبي - صلى الله عليه وسلم - هوازن وقسم الأربعة الأخماس بين الموجفين ، ثم جاءته وفود هوازن مسلمين فسألوه أن يمن عليهم ، وأن يرد عليهم ما أخذ منهم فخيرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الأموال والسبي ، فقالوا : خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا فنختار أحسابنا ، فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - حقه وحق أهل بيته ، فسمع بذلك المهاجرون فتركوا له حقوقهم ، وسمع بذلك الأنصار فتركوا له حقوقهم ، ثم بقي قوم من المهاجرين والأنصار ، فأمر فعرف على كل عشرة واحدا ، ثم قال ائتوني بطيب أنفس من بقي ، فمن كره فله علي كذا وكذا من الإبل إلى وقت ذكره ، قال : فجاءوه بطيب أنفسهم إلا الأقرع بن حابس وعيينة بن بدر : فإنهما أتيا ليعيرا هوازن فلم يكرههما - صلى الله عليه وسلم - على ذلك حتى كانا هما تركا بعد بأن خدع عيينة عن حقه وسلم لهم - عليه السلام - حق من طاب نفسا عن حقه . قال : وهذا أولى [ ص: 256 ] الأمرين بعمر عندنا في السواد وفتوحه إن كان عنوة لا ينبغي أن يكون قسم إلا عن أمر عمر لكبر قدره ، ولو يفوت عليه ما انبغى أن يغيب عنه قسمه ثلاث سنين ، ولو كان القسم ليس لمن قسم له ، ما كان له منه عوض ولكان عليهم أن يردوا الغلة ، والله أعلم كيف كان ، وهكذا صنع - صلى الله عليه وسلم - في خيبر وبني قريظة لمن أوجف عليها أربعة أخماس والخمس لأهله ، فمن طاب نفسا عن حقه فجائز للإمام نظرا للمسلمين أن يجعلها وقفا عليهم تقسم غلته على أهل الفيء والصدقة وحيث يرى الإمام ومن يطب نفسا فهو أحق بماله " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما أرض السواد ، فهو سواد كسرى ملك الفرس الذي فتحه المسلمون ، وملكوه عنوة في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد أن فتحت أطرافه في أيام أبي بكر ، رضي الله عنه .

                                                                                                                                            وحده طولا من حريثة الموصل إلى عبادان ، وعرضا من عذيب القادسية إلى حلوان ، يكون طوله مائة وستين فرسخا ، وعرضه ثمانين فرسخا ، وليست البصرة وإن دخلت في هذا الحد من أرض السواد : لأنها مما أحياه المسلمون من الموات إلا مواضع من شرقي دجلتها يسميه أهل البصرة الفرات . ومن غربي دجلتها للنهر المعروف بنهر المرأة ، ويسمى بالفهرج .

                                                                                                                                            وحضرت الشيخ أبا حامد الإسفراييني ، وهو يدرس تحديد السواد في كتاب " الرهن " وأدخل فيه البصرة ، ثم أقبل علي ، وقال : هكذا تقول ؟ قلت : لا ، قال : ولم ؟ قلت : لأنها كانت مواتا أحياه المسلمون ، فأقبل على أصحابه ، وقال : علقوا ما يقول ، فإن أهل البصرة أعرف بالبصرة .

                                                                                                                                            وفي تسميته سوادا ثلاثة أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : لكثرته مأخوذ من سواد القوم إذا كثروا ، وهذا قول الأصمعي .

                                                                                                                                            والثاني : لسواده بالزروع والأشجار : لأن الخضرة ترى من البعد سوادا ، ثم تظهر الخضرة بالدنو منها ، فقالوا المسلمون حين أقبلوا من بياض الفلاة : ما هذا السواد ؟ ، فسموه سوادا .

                                                                                                                                            والثالث : لأن العرب تجمع بين الخضرة والسواد في الاسم ، قال أبو عبيدة : ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                            وراحت رواحا من زرود فصادفت زبالة جلبابا من الليل أخضرا

                                                                                                                                            يعني : أسود ، وسواد كسرى أزيد من العراق بخمسة وثلاثين فرسخا ، فيكون العراق أقصر من السواد بخمسه ، والسواد أطول من العراق بربعه : لأن أول العراق من [ ص: 257 ] شرقي دجلة العلث ، ومن غربيها جربى ، وطوله مائة وخمسة وعشرون فرسخا ، وعرضه مستوعب لعرض السواد .

                                                                                                                                            وسمي عراقا لاستواء أرضه حين خلت من جبال تعلو ، وأودية تنخفض ، والعراق في كلام العرب : الاستواء ، كما قال الشاعر :


                                                                                                                                            سقتم إلى الحق معا وساقوا     سياق من ليس له عراق

                                                                                                                                            أي ليس له استواء .

                                                                                                                                            وقال قدامة بن جعفر : تكون مساحة العراق مكسرا من ضرب طوله في عرضه عشرة آلاف فرسخ ، يصير تكسير مساحة السواد مكسرا بزيادة الربع . مساحة العراق اثنا عشر ألف فرسخ وخمسمائة فرسخ ، ومساحة تكسير فرسخ في فرسخ اثنان وعشرون ألف جريب وخمسمائة جريب : لأن طول الفرسخ اثنا عشر ألف ذراع بالمرسلة ، ويكون بذراع المساحة ، وهي الذراع الهاشمية تسعة آلاف ذراع ، فيكون مساحة أرض العراق ، وهي عشرة آلاف فرسخ مكسرة مائتي ألف ألف جريب ، وخمسة وعشرين ألف ألف جريب ، يزيد عليها في مساحة السواد ربعها ، فيصير مساحة السواد مائتي ألف ألف جريب وثمانين ألف ألف جريب ، يسقط منها مجاري الأنهار ، والآجام والسباخ والآكام ومواضع المدن والقرى ومدارس الطرق نحو ثلثها ، ويبقى مائتا ألف ألف جريب يراح نصفها ، ويزرع نصفها ، إذا تكاملت مصالحنا ، وعمارتها ، وذلك نحو مائة ألف ألف جريب ، ينقص عنها في مساحة العراق خمسها ، وقد كانت مساحة المزروع في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اثنين وثلاثين ألف ألف جريب إلى ستة وثلاثين ألف ألف جريب : لأن البطائح تعطلت بالماء ، ونواحي تعطلت بالبتوق ، وفي المتقدرات تتكامل جميع العبارات حتى تستوعب من زرعها ، لأن العوارض والحوادث لا يخلو الزمان منها خصوصا وعموما .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية