الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم قوله : ياأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم يعني أنهم يعادونكم ويشغلونكم عن الخير ، ويدخل في ذلك سبب النزول دخولا أوليا ، وهو أن رجالا من مكة أسلموا وأرادوا أن يهاجروا فلم يدعهم أزواجهم ولا أولادهم ، فأمر الله سبحانه بأن يحذروهم فلا يطيعوهم في شيء مما يريدونه منهم مما فيه مخالفة لما يريده الله ، والضمير في " فاحذروهم " يعود إلى العدو ، أو إلى الأزواج والأولاد لكن لا على العموم ، بل إلى المتصفين بالعداوة منهم ، وإنما جاز جمع الضمير على الوجه الأول ؛ لأن العدو يطلق على الواحد والاثنين والجماعة .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أرشدهم الله إلى التجاوز فقال : وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا أي تعفوا عن ذنوبهم التي ارتكبوها وتتركوا التثريب عليها وتستروها فإن الله غفور رحيم بالغ المغفرة والرحمة لكم ولهم ، وقيل : كان الرجل الذي ثبطه أزواجه وأولاده عن الهجرة إذا رأى الناس قد سبقوه إليها وفقهوا في الدين ؛ هم أن يعاقب أزواجه وأولاده ، فأنزل الله وإن تعفوا الآية ، والآية تعم ، وإن كان السبب خاصا كما عرفناك غير مرة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد : والله ما عادوهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن اتخذوا لهم الحرام فأعطوهم إياه .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أخبر الله سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال : إنما أموالكم وأولادكم فتنة أي بلاء واختبار ومحنة يحملونكم على كسب الحرام ومنع حق الله فلا تطيعوهم في معصية الله والله عنده أجر عظيم لمن آثر طاعة الله وترك معصيته في محبة ماله وولده .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أمرهم سبحانه بالتقوى والطاعة فقال : فاتقوا الله ما استطعتم أي ما أطقتم وبلغ إليه جهدكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله سبحانه : اتقوا الله حق تقاته [ آل عمران : 102 ] ومنهم قتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي ، وابن زيد ، وقد أوضحنا الكلام في قوله : اتقوا الله حق تقاته [ آل عمران : 102 ] ومعنى واسمعوا وأطيعوا أي اسمعوا ما تؤمرون به وأطيعوا الأوامر .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقاتل : اسمعوا اقبلوا ما تسمعون لأنه لا فائدة في مجرد السماع . وأنفقوا خيرا لأنفسكم أي [ ص: 1499 ] أنفقوا من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير ولا تبخلوا بها ، وقوله : خيرا لأنفسكم منتصب بفعل مضمر دل عليه أنفقوا كأنه قال : ائتوا في الإنفاق خيرا لأنفسكم ، أو قدموا خيرا لها ، كذا قال سيبويه . وقال الكسائي ، والفراء : هو نعت لمصدر محذوف ، أي : إنفاقا خيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو عبيدة : هو خبر لكان المقدرة ، أي : يكن الإنفاق خيرا لكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكوفيون : هو منتصب على الحال ، وقيل : هو مفعول به ل " أنفقوا " ، أي : فأنفقوا خيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر في الآية الإنفاق مطلقا من غير تقييد بالزكاة الواجبة ، وقيل : المراد زكاة الفريضة ، وقيل : النافلة ، وقيل : النفقة في الجهاد ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون أي ومن يوق شح نفسه فيفعل ما أمر به من الإنفاق ولا يمنعه ذلك منه فأولئك هم الظافرون بكل خير الفائزون بكل مطلب ، وقد تقدم تفسير هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      إن تقرضوا الله قرضا حسنا فتصرفون أموالكم في وجوه الخير بإخلاص نية وطيب نفس يضاعفه لكم فيجعل الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وقد تقدم تفسير هذه الآية واختلاف القراء في قراءتها في سورة البقرة وسورة الحديد ويغفر لكم أي : يضم لكم إلى تلك المضاعفة غفران ذنوبكم والله شكور حليم يثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة ، ولا يعاجل من عصاه بالعقوبة .

                                                                                                                                                                                                                                      عالم الغيب والشهادة أي ما غاب وما حضر لا تخفى عليه منه خافية ، وهو العزيز الحكيم أي الغالب القاهر ذو الحكمة الباهرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن الأنباري : الحكيم هو المحكم لخلق الأشياء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية ياأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم في قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم ، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم ، فنزلت إلى قوله : فإن الله غفور رحيم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه وابن مردويه عن بريدة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ، واحدا من ذا الشق وواحدا من ذا الشق ، ثم صعد المنبر فقال : صدق الله أنما أموالكم وأولادكم فتنة ، إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران‌‌‌ ‌لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله : استقرضت عبدي فأبى أن يقرضني وشتمني عبدي وهو لا يدري ، يقول : وادهراه وادهراه وأنا الدهر ، ثم تلا أبو هريرة إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية