الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [64] وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين

                                                                                                                                                                                                                                      وقالت اليهود يد الله مغلولة أخرج الطبراني وابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق. فنزلت.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2057 ] وأخرج أبو الشيخ من وجه آخر عنه: نزلت في فنحاص، رأس يهود قينقاع، وتقدم أنه الذي قال: إن الله فقير ونحن أغنياء. فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      فيكون أريد بالآية هنا، ما حكي عنه بقوله المذكور. والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما لم ينكر على القائل قومه ورضوا به، نسبت تلك العظيمة إلى الكل، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانا. وإنما القاتل واحد منهم. و (غل اليد وبسطها): مجاز مشهور عن البخل والجود. ومنه قوله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها قالوا: والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال. لا سيما لدفع المال ولإنفاقه. فأطلقوا اسم السبب على المسبب. وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل. فقيل للجواد: فياض الكف. مبسوط اليد، وسبط البنان نزه الأنامل. ويقال للبخيل: كز الأصابع، مقبوض الكف، جعد الأنامل. وقوله تعالى: غلت أيديهم دعاء عليهم بالبخل أو بالفقر والمسكنة أو بغل الأيدي حقيقة. يغلون أي: تشد أيديهم إلى أعناقهم أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة: ولعنوا أي: أبعدوا عن الرحمة فلا يوفقون للتوبة: بما قالوا من الكلمة الشنيعة التي لا تصح في حق الله حقيقة ولا مجازا: بل يداه مبسوطتان أي: بأنواع العطايا المختلفة. وثنى (اليد) مبالغة في الرد ونفي البخل عنه تعالى، وإثباتا لغاية الجود، فإن غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطيه بيديه: ينفق كيف يشاء تأكيد لما قبله، منبه على أن إنفاقه تابع لمشيئته، المبنية على الحكم، التي عليها يدور أمر المعاش والمعاد.

                                                                                                                                                                                                                                      وهاهنا مباحث:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: ما زعمه الزمخشري ومن تابعه - من أن إثبات اليد لا يصح حقيقة له تعالى - فإنه نزعة كلامية اعتزالية.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الإمام ابن عبد البر في "شرح الموطأ": أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات [ ص: 2058 ] الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز. إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع، الجهمية والمعتزلة كلها، والخوارج، فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة. ويزعم أن من أقر بها شبه. وهم عند من أقر بها نافون للمعبود. والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله. وهم أئمة الجماعة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال التأويل": لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها. والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبه بسائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها ثم قال: ويدل على إبطال التأويل، أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين، حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها، ولو كان التأويل سائغا لكانوا إليه أسبق؛ لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة. وقال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى في كتاب "الإبانة" في باب (الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين) وذكر الآيات في ذلك. ورد على المتأولين بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته. مثل قوله:

                                                                                                                                                                                                                                      فإن سئلنا: أتقولون لله يدان؟ قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله: يد الله فوق أيديهم وقوله تعالى: لما خلقت بيدي وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ ص: 2059 ] إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذرية، وقد جاء في الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده» . وليس يجوز في لسان العرب، ولا في عادة أهل الخطاب، أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويعني به النعمة. وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري في مفهومها في كلامها، ومعقولا في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي، ويعني به النعمة - بطل أن يكون معنى قوله عز وجل: بيدي النعمة. وذكر كلاما طويلا في تقرير هذا ونحوه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب "الإبانة" له:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2060 ] فإن قال: فما الدليل على أن لله وجها ويدا؟ قيل له: ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، وقوله تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فأثبت لنفسه وجها ويدا: فإن قال: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذا كنتم لا تعقلون وجها ويدا إلا جارحة؟ قلنا: لا يجب هذا كما لا يجب - إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما - أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشيخ تقي الدين في "الرسالة المدنية": مذهب أهل الحديث - وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف - أن هذه الأحاديث تمر كما جاءت ويؤمن بها وتصدق وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل. وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف - منهم الخطابي - مذهب السلف أنها تجري على ظاهره مع نفي الكيفية والتشبيه عنها. وذلك، أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله. فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ويرحم الله الإمام الصرصري الأنصاري حيث يقول من قصيدة:


                                                                                                                                                                                                                                      إن المقال بالاعتزال لخطة عمياء حل بها الغواة المرد

                                                                                                                                                                                                                                          هجموا على سبل الهدى بعقولهم
                                                                                                                                                                                                                                      ليلا فعاثوا في الديار وأفسدوا

                                                                                                                                                                                                                                          صم، إذا ذكر الحديث لديهم
                                                                                                                                                                                                                                      نفروا، كأن لم يسمعوه، وغردوا

                                                                                                                                                                                                                                          واضرب لهم مثل الحمير إذ رأت
                                                                                                                                                                                                                                      أسد العرين فهن منهم شرد



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2061 ] إلى أن قال:


                                                                                                                                                                                                                                      يدعو من اتبع الحديث مشبها     هيهات ليس مشبها من يسند


                                                                                                                                                                                                                                      لكنه يروي الحديث كما أتى     غير تأويل ولا يتأود



                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: روى الإمام أحمد والشيخان في معنى الآية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة. سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه. وكان عرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض وقال: يقول الله تعالى: أنفق أنفق عليك» .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: في هذه الآية دلالة على جواز لعن اليهود، ولا إشكال أن ذلك جائز.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: هذه الآية أصل في تكفير من صدر منه، في جناب البارئ تعالى، ما يؤذن بنقص. وقوله تعالى: وليزيدن كثيرا منهم أي: من اليهود: ما أنـزل إليك من ربك من جوامع الخيرات: طغيانا أي: عدوانا على الناس، أو تماديا في الجحود: وكفرا أي: في أنفسهم بعد كفرهم وطغيانهم بالتحريف وأخذ الرشوة أولا. وهذا من إضافة الفعل إلى السبب. أي: يزدادون طغيانا وكفرا بما أنزل، كما قال: فزادتهم رجسا إلى رجسهم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2062 ] قال الحافظ ابن كثير: أي: يكون ما آتاك الله، يا محمد، من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم. فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا وعلما نافعا، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك، طغيانا - وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء - وكفرا أي: تكذيبا كما قال تعالى: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى وقال تعالى: وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا

                                                                                                                                                                                                                                      وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة فكلمتهم أبدا مختلفة وقلوبهم شتى، لا يقع بينهم اتفاق ولا تعاضد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر الشهرستاني أنهم افترقوا نيفا وسبعين فرقة. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كان اليهود ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وبسط ماجرياتهم، وهديه صلى الله عليه وسلم في شأنهم، مبسوط في "زاد المعاد" لابن القيم. فراجعه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الرازي: واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها، هو أنه تعالى بين أنهم إنما ينكرون نبوته بعد ظهور الدلائل على صحتها، لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة. ثم إنه تعالى بين أنهم، لما رجحوا الدنيا على الآخرة، لا جرم أن الله تعالى، كما حرمهم سعادة الدين، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا، لأن كل فريق منهم بقي مصرا على مذهبه ومقالته. يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات. تعظيما لنفسه وترويجا لمذهبه. فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم. وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضا، ويغزو بعضهم بعضا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2063 ] وفي الآية وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما - ما بين اليهود والنصارى؛ لأنه جرى ذكرهم في قوله تعالى: لا تتخذوا اليهود والنصارى وهو قول الحسن ومجاهد. لأنهم المحدث عنهم في قوله تعالى: وقالت اليهود

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني - ما بين فرق اليهود خاصة.

                                                                                                                                                                                                                                      أقول: وهو الظاهر. فإن قلت: فهذا المعنى حاصل أيضا بين فرق المسلمين، فكيف يكون ذلك عيبا على الكتابيين حتى يذموا به؟ قلت: بدعة التفرق التي حصلت في المسلمين، إنما حدثت بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين.

                                                                                                                                                                                                                                      أما في الصدر الأول فلم يكن شيء من ذلك حاصلا بينهم; فحسن جعل ذلك عيبا على الكتابيين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن.

                                                                                                                                                                                                                                      كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله أي: كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإثارة شر عليه، ردهم الله سبحانه وتعالى، بأن أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد، غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد قط. فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب؛ لأنه كان عادتهم ذلك. ونيران العرب مشهورة، منها هذه. وإطفاء النار على الأول عبارة عن دفع شرهم، وعلى الثاني غلبتهم. و (للحرب) إما صلة ل (أوقدوا)، أو متعلق بمحذوف وقع صفة (نارا) أي: كائنة للحرب ويسعون في الأرض فسادا أي: للفساد أو مفسدين، أي: يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وتعويق الناس عنه وإثارة الفتن: والله لا يحب المفسدين أي: من كان الإفساد صفته. و (اللام) إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا، أو للعهد، ووضع المظهر موضع المضمر للتعليل، وبيان كونهم راسخين في الإفساد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية