الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1492 [ ص: 290 ] حديث ثامن وثلاثون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة .

التالي السابق


لا خلاف عن مالك في لفظ هذا الحديث ، ولا في إسناده ، وكذلك رواه أيوب وعبيد الله بن عمر وهشام بن الغازي ، ( وغيرهم ) عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء .

لم يختلفوا في إسناده ، وكذلك رواه الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر مثله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن في حديث الزهري يبيت ثلاثا إلا وصيته [ ص: 291 ] مكتوبة عنده . قال ابن عمر : فما بت ليلة مذ سمعتها إلا ووصيتي عندي ، وقال فيه ابن عيينة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حق امرئ يؤمن بالوصية وفسره فقال : يؤمن بأنها حق ، وقال فيه سليمان بن موسى ، عن نافع إنه يحدثه ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا ينبغي لأحد عنده مال يوصي فيه أن يأتي عليه ليلتان ، إلا عنده وصية .

وكذلك قال فيه عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما حق امرئ يبيت وعنده مال يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده . وقد مضى في باب ثور بن زيد تفسير المال وقول من قال : مال أولى عندي من قول من قال : شيء ، لأن الشيء قليل المال وكثيره .

وقد أجمع العلماء على أن من لم يكن عنده إلا اليسير التافه من المال أنه لا يندب إلى الوصية ، وقال ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل لامرئ مسلم له مال يوصي فيه الحديث هكذا قال : لا يحل ، ولم يتابع على هذه اللفظة - والله أعلم - . [ ص: 292 ] ففي هذا الحديث الحض على الوصية ، والتأكيد على ذلك ، وهذا على الندب لا على الإيجاب عند الجميع لا يختلفون في ذلك ، وقد أجمع العلماء على أن الوصية غير واجبة على أحد إلا أن يكون عليه دين ، أو تكون عنده وديعة ، أو أمانة فيوصي بذلك ، وفي إجماعهم على هذا بيان لمعنى الكتاب ، والسنة في الوصية ، وقد شذت طائفة فأوجبت الوصية لا يعدون خلافا على الجمهور ، واحتجوا بظاهر القرآن ، وقالوا : المعروف واجب كما يجب ترك المنكر قالوا : وواجب على الناس كلهم أن يكونوا من المتقين .

قال أبو عمر : ليس في كتاب الله ذكر الوصية إلا في قوله عز وجل : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ) ، وهذه الآية نزلت قبل نزول الفرائض والمواريث ، فلما أنزل الله حكم الوالدين وسائر الوارثين في القرآن نسخ ما كان لهم من الوصية وجعل لهم مواريث معلومة على حسبما أحكم من ذلك تبارك وتعالى ، وقد روي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن أن آية المواريث نسخت الوصية ( للوالدين والأقربين ) [ ص: 293 ] الوارثين وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين ، وجماعة من أهل العلم . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا وصية لوارث ، وهذا بيان منه - صلى الله عليه وسلم - أن آية المواريث نسخت الوصية للوارثين ، وأما من أجاز نسخ القرآن بالسنة من العلماء ، فإنهم قالوا : هذا الحديث نسخ الوصية للورثة ، وللكلام في نسخ القرآن بالسنة موضع غير هذا ، ومما يدل على أن الحديث في الحض على الوصية ندب لا إيجاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يوص مع ما ذكرنا من إجماع الذين لا يجوز عليهم السهو ، والغلط ، ولا الجهل بمعنى كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع وأخبرنا أحمد بن محمد وأحمد بن سعيد قالا : حدثنا وهب بن مسرة ومحمد بن أبي دليم قالا : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا مصعب بن سعيد ، قال : حدثنا ابن المبارك جميعا ، عن مالك بن مغول ، عن طلحة بن مصرف قال : قلت لابن أبي أوفى أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء قالا : لا قلت فكيف أمر الناس بالوصية ؟ فقال : أوصى بكتاب [ ص: 294 ] الله واستدل بعض العلماء بقوله عز وجل في آية الوصية ( حقا على المتقين ) على أنها ليست بواجبة وجعلها مثل قوله ( متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ) قال : والمعروف هو التطوع بالإحسان ، والمتقون وغيرهم في الواجب سواء .

وروى الثوري ، عن جابر ، عن الشعبي قال : الوصية ليست بواجبة من شاء أوصى ، ومن شاء لم يوص وعن إبراهيم ، والربيع بن خثيم مثله وعليه الناس وهو قول الجمهور من العلماء . وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا مسدد ومحمد بن العلاء وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، قال : حدثنا محمد بن المثنى قالوا : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا الأعمش ، عن شقيق بن أبي وائل ، عن مسروق ، عن عائشة قالت ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينارا ، ولا درهما ، ولا شاة ، ولا أوصى بشيء .

قال أبو عمر : أما تركه - صلى الله عليه وسلم - الوصية وندبه أمته إليها ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ليس كأحد من أمته في هذا ، لأن ما يخلفه هو فصدقة قال - صلى الله عليه وسلم - : إنا لا نورث [ ص: 295 ] ما تركنا فهو صدقة . وإذا كان ما يخلفه صدقة فكيف يوصي منه بثلث ؟ أو كيف يشبه في ذلك بغيره ؟ وغيره لا تجوز له الوصية خاصة وما يخلفه هو - صلى الله عليه وسلم - بعده فصدقة كله على ما قال - صلى الله عليه وسلم - . ووجه آخر وهو قول الله عز وجل ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين ) ، والخير هاهنا المال لا خلاف بين أهل العلم في ذلك ومثل قوله عز وجل ( إن ترك خيرا ) وقوله ( وإنه لحب الخير لشديد ) وقوله ( إني أحببت حب الخير ) وقوله ( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) الخير في هذه الآيات كلها المال ، وكذلك قوله عز وجل حاكيا عن شعيب - صلى الله عليه وسلم - ( إني أراكم بخير ) يعني الغنى ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يترك دينارا ، ولا درهما ، ولا شاة ، وقال : ما تركت بعدي صدقة ، وقال : إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة . [ ص: 296 ] وقد مضى تفسير ذلك في باب ابن شهاب ، عن عروة من كتابنا هذا ، والحمد لله .

واختلف السلف في مقدار المال الذي تستحب فيه الوصية ، أو تجب عند من أوجبها فروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : ستمائة درهم ، أو سبعمائة درهم ليس بمال فيه وصية . وروي عنه أنه قال : ألف درهم مال فيه وصية ، وهذا يحتمل لمن شاء ، وقال ابن عباس : لا وصية في ثمانمائة درهم ، وقالت عائشة رضي الله عنها في امرأة لها أربعة من الولد ولها ثلاثة آلاف درهم لا وصية في مالها ، وقال إبراهيم النخعي : ألف درهم من خمسمائة درهم ، وقال قتادة في قوله عز وجل ( إن ترك خيرا الوصية ) قال : الخير ألف فما فوقها وعن علي بن أبي طالب ( قال ) : من ترك مالا يسيرا فليدعه لورثته فهو أفضل وعن عائشة فيمن ترك ثمانمائة درهم لم يترك خيرا فلا يوصي ، أو نحو هذا من القول ، وهذا كله يدلك على أن الأمر بالوصية في الكتاب والسنة على الندب لا على الإيجاب ولو كانت الوصية واجبة في الكتاب للوالدين ، والأقربين كانت منسوخة بآية المواريث ثم ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الوصية لغير الوالدين وحض عليها ، وقال : لا وصية لوارث فاستقام الأمر وبان ، والله المستعان .

فالوصية مندوب إليها مرغوب فيها غير واجب شيء منها . [ ص: 297 ] واتفق فقهاء الأمصار على أن الوصية جائزة في كل مال قل ، أو كثر ، وقد مضى القول في الوصية بالثلث ، وأنه لا يتعدى ، ولا يتجاوز في الوصية وما استحب من ذلك وتلخيص وجوه القول فيه مستوعبا في باب ابن شهاب ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص من كتابنا هذا فلا وجه لإعادته هاهنا قرأت على عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن أن محمد بن بكر حدثهم ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن محمد المروزي ، قال : حدثنا علي بن حسين بن واقد ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ( إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين ) فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث وقرأت على أحمد بن قاسم ، وعبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن أبي صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : وقوله ( إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين ) فكان لا يرث مع الوالدين غيرهم إلا وصية إن كان للأقربين ، فأنزل [ ص: 298 ] الله بعد هذا ( ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ) فبين سبحانه ميراث الوالدين وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت .

قال أبو عمر : مذهب مالك ، وسائر الفقهاء أن الوصية نسخت الوارثين خاصة الوالدين منهم ، والأقربين وبقي منها ما كان لغير الوارثين والدين كانوا أو أقربين . حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وحدثنا محمد بن خليفة ، قال : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي وحدثنا محمد بن عبد الله بن حكم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان ، قال : حدثنا هشام بن عمار وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن نجدة قالوا كلهم ، حدثنا إسماعيل بن عباس ، عن شرحبيل بن مسلم سمعه يقول : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 299 ] يقول في خطبته عام حجة الوداع : إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث . اللفظ بحديث ابن أبي شيبة .

وأخبرنا محمد بن عبد الملك ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد بن الأعرابي أبو سعيد ، قال : حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني ، قال : حدثنا يزيد بن هارون وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن الجهم ، والحارث بن أبي أسامة قالا : حدثنا عبد الوهاب قال : أخبرنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عمرو بن خارجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبهم وهو على راحلته فقال : إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث فلا تجوز وصية لوارث .

وأخبرنا محمد بن خليفة ، قال : حدثنا محمد بن الحسن ، قال : حدثنا إبراهيم بن الهيثم الناقد ، قال : حدثنا أبو معمر القطيعي ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة . [ ص: 300 ]

قال أبو عمر : ( هذا إجماع من علماء المسلمين فارتفع فيه القول ووجب التسليم ) ، ولا خلاف بين العلماء أن الوصية للأقارب أفضل من الوصية لغيرهم إذا لم يكونوا ورثة ، وكانوا في حاجة ، وكذلك لا خلاف علمته بين العلماء في جواز وصية المسلم لقرابته الكفار ، لأنهم لا يرثونه ، وقد أوصت صفية بنت حيي لأخ لها يهودي ، واختلفوا فيمن أوصى لغير قرابته وترك قرابته الذين لا يرثون ، فروي عن عمر أنه أوصى لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف ، وروي عن عائشة أنها أوصت لمولاة لها بأثاث البيت ، وروي عن سالم مثل ذلك قال الضحاك : إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية وقال : طاوس من أوصى فسمى غير قرابته وترك قرابته محتاجين ردت وصيته على قرابته ذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه وهو مشهور ، عن طاوس ، وروي عن الحسن البصري مثله ، وقال الحسن أيضا وجابر بن زيد ، وسعيد بن المسيب إذا أوصى لغير قرابته ( وترك قرابته ) ، فإنه يرد إلى قرابته ثلثي الثلث ويمضي ثلثه لمن أوصى له .

أخبرنا محمد [ ص: 301 ] بن خليفة ، قال : حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا أبو بكر بن أبي داود ، حدثنا المثنى بن أحمد ، حدثنا عاصم بن علي ، حدثنا أبو هلال ، حدثنا قتادة ، عن الحسن ، وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد فذكره وبه قال إسحاق بن راهويه ، ذكره إسحاق الكوسج عنه ، حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد وعبيد بن محمد قالا : حدثنا الحسن بن سلمة ، قال : حدثنا عبد الله بن الجارود ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن إسحاق فذكره ، وقال مالك : وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم إذا أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين أو غير محتاجين ، جاز ما صنع وبئسما فعل - إذا ترك قرابته محتاجين وأوصى لغيرهم ، وبه قال أحمد بن حنبل وهو قول عمر وعائشة ، وابن عباس وعطاء ومجاهد وقتادة ، وسعيد بن جبير ، وجمهور أهل العلم ، واحتج الشافعي ، وغيره في جواز الوصية لغير الأقارب بحديث عمران بن حصين في الذي أعتق ستة أعبد له عند موته في مرضه لا مال له غيرهم ، فأقرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة فهذه وصية لهم في ثلثه ، لأن أفعال المريض كلها وصية في ثلثه وهم لا محالة من غير قرابته وحسبك بجماعة أهل الفقه ، والحديث [ ص: 302 ] يجيزون الوصية لغير القرابة ، وفي ذلك ما يبين لك المراد من معاني الكتاب وبالله العصمة ، والتوفيق .

ذكر حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر في رجل أوصى بثلثه في غير قرابته قال : يمضى حيث أوصى ، وذكر حماد بن سلمة أيضا ، عن حميد الطويل أن ثمامة بن عبد الله كتب إلى جابر يسأله عن رجل أوصى بثلثه في غير قرابته فكتب جابر : أن أمضه كما قال : وإن أمر بثلثه أن يلقى في البحر ، قال حميد ، وقال محمد بن سيرين أما في البحر فلا ولكن يمضي كما قال . وذكر وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر قال : للرجل ثلثه عند موته يطرحه في البحر إن شاء . ووكيع ، عن طلحة بن عمرو الحضرمي ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في أعمالكم ، والمبارك بن حسان ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله عز وجل يقول : ابن آدم اثنتان لم يكن لك واحدة منهما جعلت لك نصيبا من مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك وأزكيك ، وصلاة عبادي عليك [ ص: 303 ] ودرست بن زياد ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله مات فلان قال : أو ليس كان عندنا آنفا قالوا : بلى قال : سبحان الله أخذه أسف على غضب ، المحروم من حرم وصيته . وثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان قال : قال أبو بكر الصديق : إن الله تصدق علينا بثلث أموالنا زيادة في أعمالنا .

قال أبو عمر : تركت الأسانيد بيني وبين رواة هذه الأحاديث ، وهي أحاديث حسان ، وليست فيها حجة من جهة الإسناد ، لأن في نقلتها ضعفا واضحا منها : ما حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة قال : قال رجل : يا رسول الله ، أي الصدقة أفضل ؟ قال : أن تصدق وأنت صحيح حريص تأمل البقاء وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلت لفلان كذا ولفلان كذا . زاد عبد الوارث ، وقد كان لفلان . [ ص: 304 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثنا قتادة ، عن مطرف ، عن أبيه قال : أتيت النبي عليه السلام وهو يقرأ ( ألهاكم التكاثر ) فقال : يقول ابن آدم : مالي مالي وما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت . ورواه شعبة ، وسعيد بن أبي عروة ، عن قتادة ، عن مطرف بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي عليه السلام مثله سواء .

وأخبرنا عبد الله ( بن محمد قال ) : ، حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا ابن أبي فديك قال : أخبرني ابن أبي ذئب ، عن شرحبيل بن سعد ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير من أن يتصدق بمائة عند موته . وروى موسى بن عقبة ، وشعبة ، والثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي حبيبة الطائي قال : سمعت أبا الدرداء يقول : [ ص: 305 ] سمعت رسول الله يقول : مثل الذي يعتق عند الموت مثل الذي يهدي إذا شبع . ورواه أبو الأحوص ، وجماعة ، عن أبي إسحاق بإسناده مثله ، ومن حديث أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ، وذكر وكيع ، عن الثوري ، والأعمش ، عن زيد ، عن مرة ، عن عبد الله بن مسعود في قوله ( وآتى المال على حبه ) قال : أن تؤتيه ، وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر . وذكر حماد بن سلمة ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : من أوصى بوصية فلم يضار فيها ، ولم يجنف كانت بمنزلة ما لو تصدق بها وهو صحيح .

حدثنا محمد بن خليفة ، قال : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا إبراهيم بن موسى ، قال : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الإضرار في الوصية من الكبار ثم قرأ ( غير مضار وصية من الله ) إلى قوله ( ومن يعص الله ورسوله ) قال في الوصية ( ومن يطع الله ورسوله ) قال في الوصية ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، حدثنا عبدة بن عبد الله ، حدثنا عبد الصمد بن عبد [ ص: 306 ] الوارث قال نصر بن علي الحداني ، قال : حدثنا الأشعث بن جابر الحداني ، قال : حدثنا شهر بن حوشب أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين أو سبعين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار . وقرأ أبو هريرة ( من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ) ، ( وفي رواية معمر أن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة ثم يعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ، ولم يقل معمر : ابن جابر الحداني ) . وروى الثوري ومعمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : الجنف أن يوصي لابن ابنته وهو يريد ابنته ويقول طاوس إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا وصية لوارث . وروي عن ابن عباس في تفسير الجنف مثل قول طاوس فقال الحسن : هو أن يوصي للأجانب ويترك الأقارب ، وأصل الجنف في اللغة الميل ومعناه في الشريعة الإثم . [ ص: 307 ]

قال أبو عمر : جمهور العلماء على أن الوصية لا تجوز لوارث على حال من الأحوال إلا أن يجيزها الورثة بعد موت الموصي ، فإن أجازها الورثة بعد الموت فجمهور العلماء على جوازها وممن قال ذلك مالك ، وسفيان ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، والشافعي وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وقال ابن خواز منداد : اختلف أصحابنا في الوصية للوارث فقال بعضهم : هي وصية صحيحة وللوارث الخيار في إجازتها أوردها ، فإن أجازوا ، فإنما هو تنفيذ لما أوصى به الميت ، وقال بعضهم : ليست وصية صحيحة ، فإن أجازوا فهي عطية منهم مبتدأة ، وقال المزني ، وداود وأهل الظاهر لا تجوز ، وإن أجازها الورثة وحسبهم أن يعطوه من أموالهم ما شاءوا ، وحجتهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا وصية لوارث . ولم يقل إلا أن يجيزها الورثة ، وسائر العلماء من التابعين ، ومن بعدهم من الخالفين يجيزونها ، لأنهم يرونها عطية من الورثة بعضهم لبعض فلذلك اعتبروا فيها الجواز بعد موت الموصي ، لأنه حينئذ يصح ملكهم وتصح عطيتهم .

واختلف الفقهاء في إجازة الورثة الوصية في حياة الموصي إذا أوصى لورثته ، أو بأكثر من ثلثه واستأذنهم في ذلك وهو مريض فقال مالك : إذا كان مريضا واستأذن ورثته في أن [ ص: 308 ] يوصي لوارث ، أو يوصي بأكثر من ثلثه فأذنوا له وهو مريض محجور عن أكثر من ثلثه ، لزمهم ما أجازوا من ذلك ، وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم وأحمد وأكثر أهل العلم لا يلزمهم حتى يجيزوا بعد موته ، وسواء أجازوا ذلك في مرضه أو صحته إذا كان ذلك في حياته ، وأجمعوا أنهم لو أجازوا ذلك ، وهو صحيح ، لم يلزمهم وأجمعوا أنهم إذا أجازوا ما أوصى به مورثهم لوارث منهم ، أو أجازوا وصيته بأكثر من الثلث بعد موته لزمهم ذلك ، ولم يكن لهم أن يرجعوا في شيء منه قبض ، أو لم يقبض ، وإن هذا لا يحتاج فيه إلى قبض عند جميعهم فهذه أصول مسائل الوصايا ، وأما الفروع فتتسع جدا ، والحمد لله على كل حال .

وأما قوله عز وجل ( فمن بدله بعدما سمعه ) الآية ، فمعناه عند جماعة العلماء تبديل ما أوصى به المتوفى إذا كان ذلك مما يجوز إمضاؤه ، فإن أوصى بما لا يجوز مثل أن يوصي بخمر ، أو خنزير ، أو بشيء من المعاصي ، فهذا يجوز تبديله ، ولا يجوز إمضاؤه كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث ، أو لوارث . [ ص: 309 ] حدثنا أحمد بن سعيد بن بشر ، قال : حدثنا محمد بن أبي دليم ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا يعقوب بن كعب ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول قال : كان في وصية أبي الدرداء : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به أبو الدرداء أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأنه يؤمن بالله ، ويكفر بالطاغوت على ذلك يحيا ويموت إن شاء الله ، وأوصى فيما رزقه الله بكذا وكذا ، وإن هذه وصيته إن لم يغيرها قبل الموت .

أخبرنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا هشيم ، عن مجالد ، عن الشعبي قال : كتب عمر في وصيته لا يقر عامل أكثر من سنة إلا الأشعري ، يعني أبا موسى ، فأقروه أربع سنين .

قال أبو عمر : لا يختلف العلماء أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها ، إلا أنهم اختلفوا من ذلك في المدبر ، فقال مالك : رحمه الله ، الأمر المجتمع عليه عندنا أن للإنسان أن يغير من وصيته ما شاء من عتاقة ، وغيرها إلا التدبير ، وله أن [ ص: 310 ] ينقض وصيته كلها ، ويبدلها بغيرها ، ويصنع من ذلك ما شاء إلا التدبير ، فإنه لا يتصرف فيه ، قال : أبو الفرج المدبر في العتاقة كالمعتق إلى شهر ، لأنه أجل آت لا محالة ، وقد أجمعوا أنه لا يرجع في اليمين بالعتق ، والعتق إلى أجل فكذلك المدبر ، وقال الثوري ، وسائر الكوفيين إذا قال الرجل : إن مت ففلان حر فليس له أن يرجع ، وإن قال : إن مت من مرضي هذا ، ففلان حر ، فإن شاء أن يبيعه باعه ، فإن لم يبعه فمات عتق ، فإن صح فلا شيء له .

قال أبو عمر : وإن قال الرجل لعبده : فلان حر بعد موتي وأراد الوصية ، فله الرجوع عند مالك في ذلك ، وإن قال : فلان مدبر بعد موتي ، لم يكن له الرجوع فيه ، وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك ، واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال : عبدي حر بعد موتي ، ولم يرد الوصية ، ولا التدبير ، فقال ابن القاسم : هو وصية ، وقال أشهب : هو مدبر إن لم يرد الوصية ، وأما الشافعي وأحمد وإسحاق ، وأبو ثور ، فكل هذا عندهم وصية ، والمدبر عندهم وصية يرجع فيها ، والمدبر وغير المدبر من سائر ما ينفذ بعد الموت في الثلث [ ص: 311 ] من الوصايا عندهم سواء يرجع صاحبه في ذلك كله ، وفيما شاء منه إلا أن الشافعي قال لا يكون الرجوع في المدبر إلا بأن يخرجه من ملكه ببيع أو هبة ، وليس قوله قد رجعت رجوعا ، وإن لم يخرج المدبر من ملكه حتى يموت ، فإنه يعتق بموته ، وقال في القديم يرجع في المدبر بما يرجع في الوصية وأجازه المزني قياسا على إجماعهم على الرجوع فيمن أوصى بعتقه ، وقال أبو ثور إذا قال : قد رجعت في مدبري فلان فقد بطل ، فإن مات لم يعتق وحجة الشافعي ، ومن قال بقوله في أن المدبر وصية إجماعهم على أنه في الثلث كسائر الوصايا ، وفي إجازتهم وطء المدبرة ما ينقض قياسهم على المعتق إلى أجل ، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - باع مدبرا ، وأن عائشة دبرت جارية لها ثم باعتها وهو قول جابر ، وابن المنكدر ومجاهد ، وجماعة من التابعين .




الخدمات العلمية