الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 165 ] غزو المسلمين بلاد خراسان مع الأحنف بن قيس

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذلك أن الأحنف بن قيس هو الذي أشار على عمر بأن يتوسع المسلمون بالفتوحات في بلاد العجم ، ويضيقوا على كسرى يزدجرد ، فإنه هو الذي يستحث الفرس والجنود على قتال المسلمين ، فأذن عمر بن الخطاب في ذلك عن رأيه ، وأمر الأحنف ، وأمره بغزو بلاد خراسان . فركب الأحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصدا حرب يزدجرد ، فدخل خراسان فافتتح هراة عنوة واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي . ثم سار إلى مرو الشاهجان وفيها يزدجرد ، وبعث الأحنف بين يديه مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى نيسابور ، والحارث بن حسان إلى سرخس ، ولما اقترب الأحنف من مرو الشاهجان ، ترحل منها يزدجرد إلى مرو الروذ ، فافتتح الأحنف مرو الشاهجان فنزلها ، وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ إلى خاقان ملك الترك يستمده ، وكتب إلى ملك الصغد يستمده ، وكتب إلى ملك الصين يستعينه . وقصده الأحنف بن [ ص: 166 ] قيس إلى مرو الروذ ، وقد استخلف على مرو الشاهجان حارثة بن النعمان ، وقد وفدت إلى الأحنف أمداد من أهل الكوفة مع أربعة أمراء . فلما بلغ مسيره إلى يزدجرد ، ترحل إلى بلخ وجاء الأحنف ، فافتتح مرو الروذ ، ثم سار وراء يزدجرد إلى بلخ فالتقى معه ببلخ يزدجرد ، فهزمه الله ، عز وجل ، وهرب هو ومن بقي معه من جيشه ، فعبر النهر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واستوثق ملك خراسان على يدي الأحنف بن قيس ، واستخلف في كل بلدة أميرا ، ورجع الأحنف فنزل مرو الروذ ، وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكمالها ، فقال عمر : وددت أنه كان بيننا وبين خراسان بحر من نار . فقال له علي : ولم يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إن أهلها سينقضون عهدهم ثلاث مرات ، فيجتاحون في الثالثة . فقال : يا أمير المؤمنين ، لأن يكون ذلك بأهلها ، أحب إلي من أن يكون ذلك بالمسلمين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكتب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر وقال : احفظ ما بيدك من بلاد خراسان . ولما وصل رسولا يزدجرد إلى اللذين استنجد بهما لم يحتفلا بأمره ، فلما عبر يزدجرد النهر ، ودخل في بلادهما تعين عليهما إنجاده [ ص: 167 ] في شرع الملوك ، فسار معه خاقان الأعظم ملك الترك ، ورجع يزدجرد بجنود عظيمة فيهم ملك التتار خاقان ، فوصل إلى بلخ واسترجعها ، وفر عمال الأحنف إليه إلى مرو الروذ ، وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ ، فبرز الأحنف بمن معه من أهل البصرة ، وأهل الكوفة ، والجميع عشرون ألفا ، فسمع رجلا يقول لآخر : إن كان الأمير ذا رأي ، فإنه يقف دون هذا الجبل ، فيجعله وراء ظهره ، ويبقي هذا النهر خندقا حوله ; فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة ، فلما أصبح الأحنف ، أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه ، وكان أمارة النصر والرشد ، وجاءت الأتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج ، فقام الأحنف في الناس خطيبا فقال : إنكم قليل وعدوكم كثير ، فلا يهولنكم ، ف كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين [ البقرة : 249 ] . فكانت الترك يقاتلون بالنهار ، ولا يدري الأحنف أين يذهبون في الليل . فسار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو جيش خاقان ، فلما كان قريب الصبح ، خرج فارس من الترك طليعة ، وعليه طوق ، وضرب بطبله ، فتقدم إليه الأحنف فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن على كل رئيس حقا أن يخضب الصعدة أو يندقا     إن لنا شيخا بها ملقى
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سيف أبي حفص الذي تبقى

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : ثم استلب التركي طوقه ووقف موضعه ، فخرج آخر عليه طوق ومعه [ ص: 168 ] طبل ، فجعل يضرب بطبله ، فتقدم إليه الأحنف فقتله أيضا ، واستلبه طوقه ووقف موضعه ، فخرج ثالث فقتله ، وأخذ طوقه ثم أسرع الأحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم بذلك أحد من الترك بالكلية . وكان من عادتهم أنهم لا يخرجون من مبيتهم ، حتى يخرج ثلاثة من كهولهم بين أيديهم ؛ يضرب الأول بطبله ، ثم الثاني ، ثم الثالث ، ثم يخرجون بعد الثالث ، فلما خرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث ، فأتوا على فرسانهم مقتلين ، تشاءم بذلك الملك خاقان وتطير ، وقال لعسكره : قد طال مقامنا ، وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم نصب بمثله ، ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير ، فانصرفوا بنا . فرجعوا إلى بلادهم وانتظرهم المسلمون يومهم ذلك ؛ ليخرجوا إليهم من شعبهم ، فلم يروا أحدا منهم ، ثم بلغهم انصرافهم إلى بلادهم راجعين عنهم . وقد كان يزدجرد - وخاقان في مقابلة الأحنف بن قيس ومقاتلته - ذهب إلى مرو الشاهجان فحاصر حارثة بن النعمان بها واستخرج منها خزانته التي كان دفنها بها ، ثم رجع وانتظره خاقان ببلخ حتى رجع إليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال المسلمون للأحنف : ما ترى في اتباعهم ؟ فقال : أقيموا بمكانكم ودعوهم . وقد أصاب الأحنف في ذلك ، فقد جاء في الحديث : اتركوا الترك ما تركوكم وقد رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا [ الأحزاب : 25 ] . ورجع كسرى خاسرا الصفقة لم يشف له غليل ، ولا حصل على خير ، ولا انتصر كما كان في [ ص: 169 ] زعمه ، بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه ، وتنحى عنه وتبرأ منه أحوج ما كان إليه ، وبقي مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا . وتحير في أمره ماذا يصنع ؟ وإلى أين يذهب ؟ وقد أشار عليه بعض أولي النهى من قومه حين قال : قد عزمت أن أذهب إلى بلاد الصين أو أكون مع خاقان في بلاده . فقالوا : إنا نرى أن نصانع هؤلاء القوم ، فإن لهم ذمة ودينا يرجعون إليه ، فنكون في بعض هذه البلاد وهم مجاورينا ، فهم خير لنا من غيرهم . فأبى عليهم كسرى ذلك ، ثم بعث إلى ملك الصين يستغيث به ويستنجده ، فجعل ملك الصين يسأل عن صفة هؤلاء القوم الذين قد فتحوا البلاد وقهروا رقاب العباد ، فجعل يخبره عن صفتهم ، وكيف يركبون الخيل والإبل ، وماذا يصنعون ، وكيف يصلون . فكتب معه إلى يزدجرد ، إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم ; لو يحاولون الجبال لهدوها ، ولو جئت لنصرك ، أزالوني ما داموا على ما وصف لي رسولك ، فسالمهم وارض منهم بالمسالمة . فأقام كسرى وآل كسرى في بعض البلاد مقهورين ، ولم يزل ذلك دأبه حتى قتل بعد سنتين من إمارة عثمان ، كما سنورده في موضعه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما بعث الأحنف بكتاب الفتح ، وما أفاء الله عليهم من أموال الترك ومن كان معهم ، وأنهم قتلوا منهم مع ذلك مقتلة عظيمة ، ثم ردهم الله بغيظهم لم [ ص: 170 ] ينالوا خيرا . فقام عمر على المنبر وقرئ الكتاب بين يديه ، ثم قال عمر : إن الله بعث محمدا بالهدى ، ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة ، فقال : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ التوبة : 33 ] . فالحمد لله الذي أنجز وعده ، ونصر جنده ، ألا وإن الله قد أهلك ملك المجوسية وفرق شملهم ، فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضر بمسلم ، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم ؛ لينظر كيف تعملون ، فقوموا في أمره على وجل ، يوف لكم بعهده ، ويؤتكم وعده ، ولا تغيروا فيستبدل قوما غيركم ، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ في تاريخ هذه السنة - أعني سنة ثنتين وعشرين - : وفيها فتحت أذربيجان على يدي المغيرة بن شعبة . قاله ابن إسحاق . فيقال : إنه صالحهم على ثمانمائة ألف درهم . وقال أبو عبيدة : فتحها حبيب بن مسلمة الفهري بأهل الشام عنوة ، ومعه أهل الكوفة ؛ فيهم حذيفة فافتتحها بعد قتال شديد . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها افتتح حذيفة الدينور عنوة ، بعد ما كان سعد افتتحها فانتقضوا عهدهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها افتتح حذيفة ماسبذان عنوة - وكانوا نقضوا أيضا عهد سعد - [ ص: 171 ] وكان مع حذيفة أهل البصرة فلحقهم أهل الكوفة فاختصموا في الغنيمة ، فكتب عمر : إن الغنيمة لمن شهد الوقعة . قال أبو عبيدة : ثم غزا حذيفة همذان فافتتحها عنوة ، ولم تكن فتحت قبل ذلك ، وإليها انتهى فتوح حذيفة . قال : ويقال : افتتحها جرير بن عبد الله بأمر المغيرة . ويقال : افتتحها المغيرة سنة أربع وعشرين . وفيها افتتحت جرجان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال خليفة : وفيها افتتح عمرو بن العاص أطرابلس المغرب . ويقال : في السنة التي بعدها . قلت : وفي هذا كله غرابة بالنسبة إلى ما سلف . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال شيخنا وفيها توفي أبي بن كعب في قول الواقدي ، وابن نمير ، والذهلي ، والترمذي . وقد تقدم في سنة تسع عشرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      معضد بن يزيد الشيباني ، استشهد بأذربيجان ولا صحبة له .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية