الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار

العباد جمع عبد، وعرفه في التكرمة بخلاف العبيد، وقوله: يقيموا الصلاة ، [ ص: 250 ] قالت فرقة من النحويين: جزمه بإضمار لام الأمر على حد قول الشاعر:


محمد تفد نفسك كل نفس



أنشده سيبويه ، إلا أنه قال: إن هذا لا يجوز إلا في الشعر، وقالت فرقة - أبو علي وغيره-: هو فعل مضارع جزم لما كان في معنى فعل الأمر، لأن المراد: أقيموا، وهذا كما يبنى الاسم المتمكن في النداء في قولك: "يا زيد"، لما شبه بـ "قبل وبعد"، وقال سيبويه : هو جواب شرط مقدر يتضمنه صدر الآية، تقديره: إن تقل لهم: أقيموا يقيموا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ويحتمل أن يكون جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله: "قل"، وذلك بأن يجعل "قل" في هذه الآية بمعنى بلغ وأد الشريعة يقيموا الصلاة، وهذا كله على أن المقول هو الأمر بالإقامة والإنفاق. ويظهر أن المقول هو الآية التي بعد، أعني قوله: الله الذي خلق السماوات الآية. و "السر" صدقة النفل، والعلانية الصدقة المفروضة، وهذا هو مقتضى الأحاديث، وفسر ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية بزكاة الأموال مجملا، وكذلك فسر الصلاة بأنها الخمس، وهذا عندي منه تقريب للمخاطب.

و"الخلال" مصدر من خالك إذا واد وصافى، ومنه الخلة والخليل، وقال امرؤ القيس:

[ ص: 251 ]

صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ...     ولست بمقلي الخلال ولا قال



وقال الأخفش: الخلال جمع خلة. وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة والكسائي ، وابن عامر : "لا بيع ولا خلال" بالرفع على إلغاء "لا"، وقرأ أبو عمرو، والحسن ، وابن كثير : "لا بيع ولا خلال" بالنصب على التبرية، وقد تقدم هذا، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة.

وقوله تعالى: الله الذي خلق السماوات والأرض وأنـزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار الآية تذكير بآلاء الله، وتنبيه على قدرته التي فيها إحسان إلى البشر; لتقوم الحجة من وجهين، و"الله" مبتدأ، و"الذي" خبره. ومن أخبر بهذه الجملة وتقررت في نفسه آمن وصلى وأنفق. و"السماوات" هي الأرقعة السبعة، وقوله: وأنزل من السماء يريد: السحاب. وقوله: من الثمرات يجوز أن تكون "من" للتبعيض، فيكون المراد بعض جني الأشجار، ويسقط ما كان منها سما أو مجردا للمضرات، ويجوز أن تكون "من" لبيان الجنس كأنه قال: فأخرج به رزقا لكم من الثمرات، وقال بعض الناس: "من" زائدة، وهذا لا يجوز عند سيبويه لكونها في الجواب، ويجوز عند الأخفش. و"الفلك" جمع فلك، وقد تقدم القول فيه مرارا.

وقوله: "بأمره" مصدر من أمر يأمر، وهذا راجع إلى الكلام القائم بالذات، كقول الله تعالى للبحار والأرض وسائر الأشياء: "كن" عند الإيجاد، إنما معناه: كن بحال كذا، وعلى وتيرة كذا، وفي هذا تدريج دوران الفلك ينطوي تسخير البحر وتسخير الرياح، وأما تسخير الأنهار فتفجرها في كل بلد وانقيادها للسقي وسائر المنافع.

و"دائبين" معناه: متماديين، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الجمل الذي بكى [ ص: 252 ] وأجهش إليه: (إن هذا الجمل شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه) أي تديمه في الخدمة والعمل، وظاهر الآية أن معناه: دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثرة، وحكى الطبري عن مقاتل بن حيان -يرفعه عن ابن عباس أنه قال: معناه: دائبين في طاعة الله، وهذا قول إن كان يراد به أن الطاعة انقياد منهما في التسخير فذلك موجود في قوله: "سخر"، وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العباد من البشر فهذا بعيد، والله أعلم.

وقوله تعالى: وآتاكم من كل ما سألتموه للجنس من البشر، أي إن الإنسان بجملته قد أوتي من كل ما شأنه أن يسأل وينتفع به، ولا يطرد هذا في واحد من الناس، وإنما تفرقت هذه النعم في البشر، فيقال بحسب هذا للجميع: "أوتيتم كذا" على جهة التعديد للنعمة، وقيل المعنى: وآتاكم من كل ما سألتموه أن لو سألتموه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا قريب من الأول، و"ما" في قوله سبحانه: ما سألتموه يصح أن تكون مصدرية، ويكون الضمير في قوله: "سألتموه" عائدا على الله تبارك وتعالى، ويصح أن تكون "ما" بمعنى "الذي"، ويكون الضمير عائدا على "الذي"، وقرأ الضحاك بن مزاحم، وابن عباس : "من كل ما سألتموه" بتنوين "كل"، وهي قراءة الحسن ، وقتادة ، وسلام، ورويت عن نافع ، والمعنى: وآتاكم من كل هذه المخلوقات المذكورات قبل ما شأنه أن يسأل لمعنى الانتفاع به، فـ "ما" في قوله: ما سألتموه مفعول ثان بـ "آتاكم". وقال بعض الناس: "ما" نافية على هذه القراءة، أي: أعطاكم من كل شيئا، ما سألتموه، والمفعول الثاني هو قولنا: "شيئا"، فعدد على هذه- [ ص: 253 ] النعمة في تفضيله بما لم يسأله البشر من النعم، وكان ما سألوه لم يعرض له.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا تفسير الضحاك. وأما القراءة الأولى بإضافة "كل" إلى "ما" فلا بد من تقدير المفعول الثاني: جزءا أو شيئا أو نحو هذا.

وقوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها أي: لكثرتها وعظمها في الحواس والقوى والإيجاد من العدم إلى الهداية إلى لإيمان وغير ذلك. وقال طلق بن حبيب: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، ونعمه أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين. وقال أبو الدرداء: من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه.

وقوله تعالى: إن الإنسان يريد به النوع والجنس، المعنى: توجد فيه هذه الخلال، وهي الظلم والكفر، فإن كانت هذه الخلال من جاحد فهي بصفة، وإن كانت من عاص فهي بصفة أخرى.

التالي السابق


الخدمات العلمية