الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين

                                                                                                                                                                                                                                      ضرب سبحانه مثلا للمشرك والموحد لإيضاح حالهما وبيان مآلهما ، فقال : أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى والمكب والمنكب : الساقط على وجهه ، يقال كببته فأكب وانكب ، وقيل : هو الذي يكب رأسه فلا ينظر يمينا ولا شمالا ولا أماما فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : أراد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فلا يزال [ ص: 1514 ] مشيه ينكسه على وجهه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة : هو الكافر يكب على معاصي الله في الدنيا فيحشره الله يوم القيامة على وجهه .

                                                                                                                                                                                                                                      والهمزة للاستفهام الإنكاري ، أي : هل هذا الذي يمشي على وجهه أهدى إلى المقصد الذي يريده أمن يمشي سويا معتدلا ناظرا إلى ما بين يديه على صراط مستقيم أي : على طريق مستو لا اعوجاج به ولا انحراف فيه ، وخبر " من " محذوف لدلالة خبر " من " الأولى وهو " أهدى " عليه ، وقيل : لا حاجة إلى ذلك ؛ لأن " من " الثانية معطوفة على " من " الأولى عطف المفرد على المفرد ، كقولك أزيد قائم أم عمرو ؟ وقيل : أراد بمن يمشي مكبا على وجهه من يحشر على وجهه إلى النار ، ومن يمشي سويا من يحشر على قدميه إلى الجنة ، وهو كقول قتادة الذي ذكرناه ، ومثله قوله : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم [ الإسراء : 97 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قل هو الذي أنشأكم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأن الله هو الذي أنشأهم النشأة الأولى وجعل لهم السمع ليسمعوا به والأبصار ليبصروا بها ، ووجه إفراد السمع مع جمع الأبصار أنه مصدر يطلق على القليل والكثير ، وقد قدمنا بيان هذا في مواضع مع زيادة في البيان والأفئدة القلوب التي يتفكرون بها في مخلوقات الله ، فذكر سبحانه هاهنا أنه قد جعل لهم ما يدركون به المسموعات والمبصرات والمعقولات إيضاحا للحجة وقطعا للمعذرة وذما لهم على عدم شكر نعم الله ، ولهذا قال : قليلا ما تشكرون وانتصاب قليلا على أنه نعت مصدر محذوف ، و " ما " مزيدة للتأكيد ، أي : شكرا قليلا أو زمانا قليلا ، وقيل : أراد بقلة الشكر عدم وجوده منهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقاتل : يعني أنكم لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه .

                                                                                                                                                                                                                                      قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم أن الله هو الذي خلقهم في الأرض ونشرهم فيها وفرقهم على ظهرها وأن حشرهم للجزاء إليه لا إلى غيره .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ذكر سبحانه أنهم يستعجلون العذاب فقال : ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين أي : متى هذا الوعد الذي تذكرونه لنا من الحشر والقيامة والنار والعذاب إن كنتم صادقين في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      والخطاب منهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين ، وجواب الشرط محذوف ، والتقدير إن كنتم صادقين فأخبرونا به أو فبينوه لنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا منهم استهزاء وسخرية .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لما قالوا هذا القول أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عليهم فقال : قل إنما العلم عند الله أي : إن وقت قيام الساعة علمه عند الله لا يعلمه غيره .

                                                                                                                                                                                                                                      ومثله قوله : قل إنما علمها عند ربي [ الأعراف : 187 ] ثم أخبرهم أنه مبعوث للإنذار لا للإخبار بالغيب فقال : وإنما أنا نذير مبين أنذركم وأخوفكم عاقبة كفركم وأبين لكم ما أمرني الله ببيانه .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ذكر الله سبحانه حالهم عند معاينة العذاب فقال : فلما رأوه زلفة يعني رأوا العذاب قريبا ، وزلفة مصدر بمعنى الفاعل ، أي : مزدلفا أو حال من مفعول " رأوا " بتقدير مضاف ، أي : ذا زلفة وقرب .

                                                                                                                                                                                                                                      أو ظرف ، أي : رأوه في مكان ذي زلفة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد ، أي : قريبا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن : عيانا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أكثر المفسرين : المراد عذاب يوم القيامة ، وقال مجاهد : المراد عذاب بدر ، وقيل : رأوا ما وعدوا به من الحشر قريبا منهم كما يدل عليه قوله : وإليه تحشرون وقيل : لما رأوا عملهم السيئ قريبا سيئت وجوه الذين كفروا أي اسودت وعلتها الكآبة وغشيتها الذلة ، يقال ساء الشيء يسوء فهو سيئ إذا قبح .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : المعنى تبين فيها السوء ، أي : ساءهم ذلك العذاب فظهر عليهم بسببه في وجوههم ما يدل على كفرهم كقوله : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه [ آل عمران : 106 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور بكسر السين بدون إشمام ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وابن محيصن بالإشمام وقيل هذا الذي كنتم به تدعون أي : قيل لهم توبيخا وتقريعا : هذا المشاهد الحاضر من العذاب هو العذاب الذي كنتم به تدعون في الدنيا ، أي : تطلبونه وتستعجلون به استهزاء ، على أن معنى " تدعون " الدعاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفراء : تدعون من الدعاء ، أي : تتمنون وتسألون ، وبهذا قال الأكثر من المفسرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : هذا الذي كنتم به تدعون الأباطيل والأحاديث .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : معنى تدعون : تكذبون ، وهذا على قراءة الجمهور تدعون بالتشديد ، فهو إما من الدعاء كما قال الأكثر ، أو من الدعوى كما قال الزجاج ومن وافقه ، والمعنى : أنهم كانوا يدعون أنه لا بعث ولا حشر ولا جنة ولا نار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ قتادة ، وابن أبي إسحاق ، ويعقوب ، والضحاك : " تدعون " مخففا ، ومعناها ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة : هو قولهم ربنا عجل لنا قطنا [ ص : 16 ] وقال الضحاك : هو قولهم اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء [ الأنفال : 32 ] الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      قال النحاس : تدعون وتدعون بمعنى واحد كما تقول قدر واقتدر ، وغدا واغتدى ، إلا أن أفعل معناه مضى شيئا بعد شيء ، وفعل يقع على القليل والكثير .

                                                                                                                                                                                                                                      قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أي : أخبروني إن أهلكني الله ومن معي بالعذاب ، أو رحمنا فلم يعذبنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم أي : فمن يمنعهم ويؤمنهم من العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أنه لا ينجيهم من ذلك أحد سواء أهلك الله رسوله والمؤمنين معه كما كان الكفار يتمنونه ، أو أمهلهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المعنى : إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء ، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب ، ووضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر ، وبيان أنه السبب في عدم نجاتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قل هو الرحمن آمنا به وحده ، لا نشرك به شيئا وعليه توكلنا لا على غيره .

                                                                                                                                                                                                                                      والتوكل : تفويض الأمور إليه عز وجل : فستعلمون من هو في ضلال مبين منا ومنكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا تهديد شديد مع إخراج الكلام مخرج الإنصاف .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور ستعلمون بالفوقية على الخطاب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الكسائي بالتحتية على الخبر .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم احتج سبحانه عليهم ببعض نعمه ، وخوفهم بسلب تلك [ ص: 1515 ] النعمة عنهم فقال : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا أي : أخبروني إن صار ماؤكم غائرا في الأرض بحيث لا يبقى له وجود فيها أصلا ، أو صار ذاهبا في الأرض إلى مكان بعيد بحيث لا تناله الدلاء .

                                                                                                                                                                                                                                      يقال غار الماء غورا ، أي : نضب ، والغور الغائر ، وصف بالمصدر للمبالغة ، كما يقال رجل عدل ، وقد تقدم مثل هذا في سورة الكهف فمن يأتيكم بماء معين أي : ظاهر تراه العيون ، وتناله الدلاء ، وقيل : هو من معن الماء ، أي : كثر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة ، والضحاك ، أي : جار ، وقد تقدم معنى المعين في سورة المؤمن .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس " فمن يأتيكم بماء عذب " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أفمن يمشي مكبا قال : في الضلالة أمن يمشي سويا قال : مهتديا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الخطيب في تاريخه وابن النجار عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه ، وليقرأ هذه الآية هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الدارقطني في الأفراد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه ، وليقرأ هاتين الآيتين سبع مرات وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع إلى يفقهون [ الأنعام : 98 ] و هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون فإنه يبرأ بإذن الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : إن أصبح ماؤكم غورا قال : داخلا في الأرض فمن يأتيكم بماء معين قال : الجاري .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عنه إن أصبح ماؤكم غورا قال : يرجع في الأرض : وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضا بماء معين قال : ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا بماء معين قال : عذب .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية