الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        باب

                                                                                                                                                                        إزالة النجاسة

                                                                                                                                                                        النجس ضربان : نجس العين ، وغيره ، فنجس العين : لا يطهر بحال ، إلا الخمر ، فتطهر بالتخلل ، وجلد الميتة بالدباغ . والعلقة والمضغة والدم الذي هو حشو البيضة ، [ ص: 28 ] إذا نجسنا الثلاثة فاستحالت حيوانات . وأما غير نجس العين ، فضربان : نجاسة عينية ، وحكمية ، فالحكمية : هي التي تيقن وجودها ولا تحس ، كالبول إذا جف على المحل ولم يوجد له رائحة ولا أثر ، فيكفي إجراء الماء على محلها مرة ، ويسن ثانية ، وثالثة . وأما العينية : فلا بد من محاولة إزالة ما وجد منها من طعم ، ولون ، وريح ، فإن فعل ذلك فبقي طعم ، لم يطهر ، وإن بقي اللون وحده وهو سهل الإزالة ، لم يطهر . وإن كان عسرها ، كدم الحيض يصيب الثوب ، وربما لا يزول بعد المبالغة ، والاستعانة بالحت والقرص ، طهر . وفيه وجه شاذ أنه لا يطهر ، والحت والقرص ليسا بشرط ، بل مستحبان عند الجمهور ، وقيل : هما شرط ، وإن بقيت الرائحة وحدها وهي عسرة الإزالة ، كرائحة الخمر ، فقولان . وقيل : وجهان . أظهرهما يطهر . وإن بقي اللون والرائحة معا ، لم يطهر على الصحيح ، ثم الصحيح الذي قاله الجمهور ، إن ما حكمنا بطهارته مع بقاء لون أو رائحة ، فهو طاهر حقيقة ، ويحتمل أنه نجس معفو عنه .

                                                                                                                                                                        وقد أشار إليه في ( التتمة ) ثم بعد زوال العين يسن غسله ، ثانية ، وثالثة ، ولا يشترط في حصول الطهارة عصر الثوب على الأصح ، بناء على طهارة الغسالة . وإن قلنا بالضعيف : إن العصر شرط ، قام مقامه الجفاف على الأصح ، لأنه أبلغ في زوال الماء .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ما ذكرناه من طهارة المحل بالعصر أو دونه : هو فيما إذا ورد الماء على المحل ، أما إذا ورد الماء المحل النجس ، كالثوب يغمس في إجانة فيها ماء ويغسل فيها ، ففيه وجهان : الصحيح الذي قاله الأكثرون : لا يطهر ، وقال ابن سريج : يطهر ، ولو ألقته الريح فيه والماء دون قلتين ، نجس الماء أيضا بلا خلاف .

                                                                                                                                                                        [ ص: 29 ] فرع

                                                                                                                                                                        إذا أصاب الأرض بول فصب عليها ماء غمره واستهلك فيه ، طهرت بعد نضوب الماء ، وقبله وجهان . إن قلنا : العصر لا يجب ، طهرت . وإن قلنا : واجب ، لم يطهر . فعلى هذا لا يتوقف الحكم بالطهارة على الجفاف ، بل يكفي أن يغيض الماء كالثوب المعصور .

                                                                                                                                                                        ويكفي أن يكون الماء المصبوب غامرا للنجاسة على الصحيح ، وقيل : يشترط أن يكون سبعة أضعاف البول ، وقيل : يشترط أن يصب على بول الواحد ذنوب ، وعلى بول الاثنين ذنوبان ، وعلى هذا أبدا ، ثم الخمر ، وسائر النجاسات المائعة كالبول ، يطهر الأرض عنها بغمر الماء بلا تقدير على المذهب .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        اللبن النجس : ضربان . مختلط بنجاسة جامدة ، كالروث وعظام الميتة ، وغير مختلط .

                                                                                                                                                                        فالأول : نجس لا طريق إلى تطهيره ، لعين النجاسة . فإن طبخ ، فالمذهب - وهو الجديد - أنه على نجاسته . وفي القديم قول : أن الأرض النجسة تطهر بزوال النجاسة ، بالشمس ، والريح ، ومرور الزمن . فخرج أبو زيد ، والخضري ، وآخرون منه قولا : إن النار تؤثر ، فيطهر ظاهره بالطبخ . فعلى الجديد : لو غسل ، لم يطهر على الصحيح المنصوص . وقال ابن المرزبان والقفال : يطهر ظاهره .

                                                                                                                                                                        [ ص: 30 ] وأما غير المختلط ، كالمعجون بماء نجس ، أو بول ، فيطهر ظاهره بإفاضة الماء عليه ، ويطهر باطنه بأن ينقع في الماء حتى يصل إلى جميع أجزائه ، كالعجين بمائع نجس . هذا إن لم يطبخ ، فإن طبخ ، طهر - على تخريج أبي زيد - ظاهره ، وكذا باطنه ، على الأظهر ، وأما على الجديد ، فهو على نجاسته ، ويطهر بالغسل ظاهره دون باطنه ، وإنما يطهر باطنه بأن يدق حتى يصير ترابا ، ثم يفاض الماء عليه ، فلو كان بعد الطبخ رخوا لا يمنع نفوذ الماء ، فهو كما قبل الطبخ .

                                                                                                                                                                        قلت : إذا أصابت النجاسة شيئا صقيلا ، كسيف ، وسكين ، ومرآة ، لم يطهر بالمسح عندنا ، بل لا بد من غسلها . ولو سقيت سكين ماء نجسا ، ثم غسلها ، طهر ظاهرها . وهل يطهر باطنها بمجرد الغسل ، أم لا يطهر حتى يسقيها مرة ثانية بماء طهور ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        ولو طبخ لحم بماء نجس ، صار ظاهره وباطنه نجسا ، وفي كيفية طهارته وجهان . أحدهما : يغسل ثم يعصر ، كالبساط . والثاني : يشترط أن يغلى بماء طهور .

                                                                                                                                                                        وقطع القاضي حسين ، والمتولي ، في مسألتي السكين واللحم : بأنه يجب سقيها مرة ثانية وإغلاؤه . واختار الشاشي الاكتفاء بالغسل ، وهو المنصوص .

                                                                                                                                                                        قال الشافعي - رضي الله عنه - في ( الأم ) في ( باب صلاة الخوف ) : لو أحمى حديدة ثم صب عليها سما نجسا ، أو غمسها فيه فشربته ، ثم غسلت بالماء ; طهرت ، لأن الطهارات كلها إنما جعلت ما يظهر ، ليس على الأجواف . هذا نصه بحروفه .

                                                                                                                                                                        قال المتولي : وإذا شرطنا سقي السكين ، جاز أن يقطع بها الأشياء الرطبة قبل السقي ، كما يقطع اليابسة . ولو أصابت الزئبق نجاسة ، فإن لم يتقطع ; طهر [ ص: 31 ] بصب الماء عليه ، وإن تقطع ، كالدهن ، لا يمكن تطهيره على الأصح ، ذكره المحاملي ، والبغوي . وإزالة النجاسة التي لم يعص بالتلطخ بها في بدنه ، ليست على الفور ، وإنما يجب عند إرادة الصلاة ونحوها . ويستحب المبادرة بها .

                                                                                                                                                                        قال المتولي ، وغيره : للماء قوة عند الورود على النجاسة ، فلا ينجس بملاقاتها ، بل يبقى مطهرا ، فلو صبه على موضع النجاسة من ثوب فانتشرت الرطوبة في الثوب ، لا يحكم بنجاسة موضع الرطوبة ، ولو صب الماء في إناء نجس ، ولم يتغير بالنجاسة ، فهو طهور . فإذا أداره على جوانبه ، طهرت الجوانب كلها . قال : ولو غسل ثوب عن نجاسة ، فوقعت عليه نجاسة عقب عصره . هل يجب غسل جميع الثوب ، أم يكفي غسل موضع النجاسة ؟ وجهان : الصحيح : الثاني . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        الواجب في إزالة النجاسة الغسل ، إلا في بول صبي لم يطعم ، ولم يشرب سوى اللبن ، فيكفي فيه الرش ، ولا بد فيه من إصابة الماء جميع موضع البول . ثم لا يراده ثلاث درجات ، الأولى : النضح المجرد . الثانية : النضح مع الغلبة والمكاثرة . الثالثة : أن ينضم إلى ذلك السيلان ، فلا حاجة في الرش إلى الثالثة قطعا ، ويكفي الأولى على وجه ، ويحتاج إلى الثانية على الأصح . ولا يلحق ببول الصبي ; بول الصبية ؟ بل يتعين غسله على الصحيح .

                                                                                                                                                                        قلت : وفي ( التتمة ) وجه شاذ : أن الصبي ، كالصبية ، فيجب الغسل .

                                                                                                                                                                        قال البغوي : وبول الخنثى كالأنثى من أي فرجيه خرج . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية