الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1037 [ ص: 366 ] حديث ثان وأربعون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله ، أو ليصمت .

التالي السابق


هكذا رواه مالك ، وغيره ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي عليه السلام معنى واحد ، وكذلك رواه الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر وزاد قال عمر : فوالله ما حلفت بها ذاكرا ، ولا آثرا .

وفي هذا الحديث من الفقه أنه لا يجوز الحلف بغير الله عز وجل في شيء من الأشياء ، ولا على حال من الأحوال ، وهذا أمر مجتمع عليه ، وقد روى سعيد بن عبيدة ، عن ابن عمر فيه حديثا شديدا : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من حلف بغير الله فقد أشرك . ذكره أبو داود ، وغيره . [ ص: 367 ] وروى محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحلفوا بآبائكم ، ولا بأمهاتكم ، ولا بالأنداد ، ولا تحلفوا إلا بالله ، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون . حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا عوف ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة فذكره ، والحلف بالمخلوقات كلها في حكم الحلف بالآباء لا يجوز شيء من ذلك ، فإن احتج محتج بحديث يروى عن إسماعيل بن جعفر ، عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر ، عن أبيه ، عن طلحة بن عبيد الله في قصة الأعرابي النجدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أفلح وأبيه إن صدق قيل له هذه لفظة غير محفوظة في هذا الحديث من حديث من يحتج به ، وقد روى هذا الحديث مالك ، وغيره ، عن أبي سهيل لم يقولوا ذلك فيه ، وقد روي عن إسماعيل بن جعفر هذا الحديث ، وفيه أفلح ، والله إن صدق ، أو دخل الجنة ، والله إن صدق ، وهذا أولى من رواية من روى وأبيه ، لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح وبالله التوفيق .

قال أبو عمر : أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها ، لا يجوز الحلف بها لأحد ، واختلفوا في الكفارة [ ص: 368 ] هل تجب على من حلف بغير الله فحنث فأوجبها بعضهم في أشياء يطول ذكرها ، وأبى بعضهم من إيجاب الكفارة على من حنث في يمينه بغير الله وهو الصواب عندنا ، والحمد لله ، وأما الحلف بالطلاق ، والعتق فليس بيمين عند ( أهل ) التحصيل ، والنظر ، وإنما هو طلاق بصفة ، أو عتق بصفة إذا أوقعه موقعا وقع على حسبما يجب في ذلك عند العلماء ، كل على أصله ، وقول المتقدمين الأيمان بالطلاق والعتق ، إنما هو كلام خرج على الاتساع والمجاز والتقريب ، وأما الحقيقة فإنما هو طلاق على صفة ما وعتق على صفة ، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله عز وجل ، وأما من حلف بصدقة ماله ، أو نحو ذلك ، فالذي يلزم منه ما قصد به فاعله إلى البر والقربة إلى الله عز وجل ، وهذا باب اختلف فيه العلماء قديما وحديثا ، وسنذكر ما لهم في ذلك من الأقوال ، والاعتلال في باب عثمان بن حفص بن خلدة من كتابنا هذا عند ذكر قصة أبي لبابة إن شاء الله .

ونذكر وجوه الأيمان وتقسيمها عند العلماء ، واللغو منها وغير اللغو ، وأحكام كفارتها في باب سهيل بن أبي صالح من كتابنا هذا ( أيضا ) إن شاء الله . ونذكر هاهنا معاني الأيمان بالله عز [ ص: 369 ] وجل خاصة ، لأن الغرض مما في كل باب من أبواب كتابنا هذا أن يتسع القول في أصوله ونوضحها ونبسطها ، ونلوح من فروعه بما يدل على المراد فيه إذ الفروع لا تحصى ، ولا تضبط إلا بضبط الأصول ، والله المستعان فالذي أجمع عليه العلماء في هذا الباب هو أنه من حلف بالله أو باسم من أسماء الله أو بصفة من صفاته ، أو بالقرآن ، أو بشيء منه فحنث ، فعليه كفارة يمين على ما وصف الله في كتابه من حكم الكفارة ، وهذا ما لا خلاف فيه عند أهل الفروع ، وليسوا في هذا الباب بخلاف ، وأجمع العلماء على أن تصريح اليمين بالله هو قول الحالف بالله أو والله أو تالله ، واختلفوا فيمن قال : والله والله والله ، أو والله والرحمن ، أو والرحمن والرحيم ، أو والله والرحيم الرحمن .

فتحصيل مذهب مالك ، وأصحابه في ذلك ، وهو قول الأوزاعي ، والبتي : أنها يمين واحدة أبدا إذا كرر شيئا مما ذكرنا إلا أن يكون أراد استثناء يمين فيكون كذلك ، وسواء كان [ ص: 370 ] ذلك في مجلس واحد أو مجالس ، وقال الشافعي : في كل يمين كفارة إلا أن يكون أراد التكرار ، وقال أبو حنيفة : إذا قال : والله والرحمن فهما يمينان ، إلا أن يكون أراد اليمين الأولى ، فتكون يمينا واحدة ، ولو قال : والله الرحمن كانت يمينا واحدة .

قال أبو عمر : لا يختلفون فيمن قال : والله العظيم الرحمن الرحيم ، ونحو هذا من صفاته عز وجل ، أنها يمين واحدة ، وإنما اختلفوا إذا أدخل الواو ، وقال زفر : إذا قال : والله الرحمن كانت يمينا واحدة ، وقال أبو حنيفة : من حلف في شيء واحد مرارا في مجلس واحد ، فإن كان أراد التكرار ، فهي يمين واحدة ، وإن لم تكن له نية ، وأراد التغليظ فهما يمينان ، وإن حلف في مجلسين فهما يمينان ، وقال الثوري : هي يمين واحدة ، وإن كان في مجالس إلا أن يكون أراد يمينا أخرى ، وقال الحسن بن حي إن قال : والله لا أكلم ( فلانا ) ، والله والله لا أكلم فلانا فيمين واحدة ، وإن قال : والله لا أكلم فلانا ثم قال : والله لا أكلم فلانا فيمينان ، وقال أحمد بن حنبل : من حلف على شيء واحد بأيمان كثيرة في مجلس ، أو مجالس فحنث فإنما عليه كفارة واحدة . [ ص: 371 ] وأجمعوا أنه إذا أقسم بالله أنها يمين ، واختلفوا فيمن قال : أقسم أو أشهد أو أعزم أو أحلف ، ولم يقل بالله ولكنه أراد بالله فقال مالك : كل هذه الألفاظ يمين إذا أراد بالله ، وإن لم يرد بالله فليس شيء منها بيمين ، وروي عن مالك أنه ضعف أعزم بالله وكأنه لم يره يمينا إلا أن يكون أراد اليمين ، لأنه قد يكون على وجه الاستعانة كأنه يقول : أستعين بالله ، أو بحول الله ، وهذا ليس بيمين عند أحد ، وقال الشافعي : أقسم بالله ، أو أقسمت بالله ، أو أشهد بالله ، أو أعزم بالله يمين إذا أراد بها اليمين ، وليست بيمين إن لم يرد بها يمينا ، وليس أقسم وأشهد وأحلف يمينا إذا لم يقل بالله . هذه رواية المزني عنه . وروى عنه الربيع نحو قول مالك أنه إذا قال : أقسم ، أو أشهد ، أو أعزم فهو يمين ، وإن لم يقل بالله إذا أراد بالله وأراد به اليمين قال الربيع ، وقال الشافعي : وإن قال : أحلف بالله فليس بيمين إلا أن ينوي اليمين ، لأنه يحتمل أن يريد سأحلف بالله ، وقال أبو حنيفة : أقسم وأشهد وأعزم وأحلف كلها أيمان ، وإن لم يقل بالله وهو قول الثوري ، والأوزاعي وقول الحسن ، والنخعي .

واختلفوا فيمن حلف بحق الله أو بعهد الله أو ميثاقه ، أو نحو ذلك فقال مالك : من حلف بحق الله فهي يمين قال : [ ص: 372 ] وكذلك عهد الله وميثاقه وكفالته وعزته ، وقدرته وسلطانه وجميع صفات الله وأسمائه هي أيمان كلها فيها الكفارة ، وكذلك لعمر الله وايم الله ، وقال الشافعي في : وحق الله وجلال الله وعظمته وقدرته يمين إن نوى بها اليمين ، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين ، لأنه يحتمل ، وحق الله واجب ، وقدرة الله ماضية ، وقال في : " أمانة الله " ليست بيمين ، وفي لعمر الله وايم الله إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين ، وقال الأوزاعي : من قال : لعمر الله وايم الله لأفعلن كذا ثم حنث فعليه كفارة يمين ، وقال أبو حنيفة : إن قال : وحق الله فهي يمين فيها كفارة ، وقال محمد بن الحسن ليست بيمين ، ولا فيها كفارة ، وقال الرازي قول أبي حنيفة في هذا مثل قول محمد ليست بيمين ، وكذلك عهد الله وميثاقه وأمانته ليست بيمين ، وقال أبو حنيفة : في قوله ( إنا عرضنا الأمانة ) هي الأيمان ، والشرائع ، وقال بعض أصحابه هي يمين ، وقال الطحاوي ليست بيمين ، وقال الشافعي : من حلف بالقرآن فحنث فعليه الكفارة ، وقال أحمد بن حنبل من حلف بالقرآن ، أو بحق القرآن فحنث لزمته بكل آية كفارة وأجمعوا أن الاستثناء في اليمين بالله عز وجل جائز ، واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله من الطلاق ، والعتق [ ص: 373 ] ، وغير ذلك وما أجمعوا عليه فهو الحق ، وإنما ورد التوقيف في الاستثناء في اليمين بالله لا في غير ذلك . حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من حلف فقال : إن شاء الله .

فقد استثنى .
وأيوب هذا هو أيوب بن موسى الأموي ، وقد روى هذا الحديث أيوب السجستاني ، عن نافع ، عن ابن عمر حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن عيسى ومسدد قالا : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من حلف فاستثنى ، فإن شاء رجع ، وإن شاء ترك . وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من حلف فقال : إن شاء الله لم يحنث . وروى مالك ، عن نافع [ ص: 374 ] ، عن ابن عمر قال : من قال : والله ثم قال : إن شاء الله لم يحنث .

أخبرنا سعيد بن عثمان ، حدثنا أحمد بن دحيم بن خليل ، حدثنا أبو عروبة ، قال : حدثنا الحسين بن سيار ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من حلف فقال : إن شاء الله فلا حنث عليه . جعله مالك موقوفا على ابن عمر وأجمعوا أن الاستثناء إن كان في نسق الكلام دون انقطاع بين في اليمين بالله أنه جائز ، واختلفوا فيه إذا كان بعد سكوت وطول .




الخدمات العلمية