الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
حكم الزواج والتزويج، وبيان مذاهب الأئمة في ذلك

وقال تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم .

الأيم بالتشديد -: التي لا زوج لها، ومن ليس له زوجة، فيشمل الرجل والمرأة الغير المتزوجين، والجمع "أيامى" ، والأصل "أيايم" .

والخطاب في الآية الأولياء والسادة، وقيل: للأزواج، والأول أرجح.

[ ص: 442 ] وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها.

واختلف أهل العلم في هذا النكاح، هل هو مباح، أو مستحب، أو واجب ؟

فذهب إلى الأول: الشافعي وغيره، وإلى الثاني: مالك، وأبو حنيفة، وإلى الثالث: بعض أهل العلم، على تفصيل لهم في ذلك.

فقالوا: إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية، وجب عليه، وإلا فلا. والظاهر: أن القائلين بالإباحة والاستحباب، لا يخالفون في الوجوب مع تلك الخشية.

وبالجملة: فهو - مع عدمها - سنة من السنن المؤكدة; لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بعد ترغيبه بالنكاح: "ومن رغب عن سنتي، فليس مني" . ولكن مع القدرة عليه، وعلى مؤنه.

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج; فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" أخرجه البخاري، ومسلم.

قال ابن عباس: أمر الله سبحانه بالنكاح، ورغبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغناء.

وعن أبي بكر الصديق، قال: أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى.

وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انكحوا النساء; فإنهن يأتينكم بالمال" أخرجه البزار، والدارقطني، وأخرجه أبو داود في مراسيله.

والمراد بــ: "الأيامى" هاهنا: الأحرار والحرائر.

[ ص: 443 ] وأما المماليك، فقد بين ذلك بقوله: والصالحين من عبادكم وإمائكم [النور: 32]، والصلاح هو الإيمان، وقيل: القيام بحقوق النكاح، حتى يقوم العبد بما يلزم لها، وتقوم الأمة بما يلزم للزوج.

أو المراد بالصلاح: ألا تكون صغيرة لا تحتاج إلى النكاح.

وخص الصالحين بالذكر; ليحصن دينهم، ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأن الصالحين منهم هم الذين مواليهم يشفقون وينزلونهم منزلة الأولاد في المودة، وكانوا مظنة التوصية، والاهتمام بهم، ومن ليس بصالح، فحاله على العكس من ذلك، وذكر سبحانه الصلاح في المماليك دون الأحرار; لأن الغالب في الأحرار الصلاح، بخلاف المماليك.

وفيه دليل على أن المملوك لا يزوج نفسه، وإنما يزوجه ويتولى تزويجه مالكه وسيده.

وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح. وقال مالك: لا يجوز. هكذا في "فتح البيان" .

والآية الشريفة حجة واضحة على جواز النكاح الثاني، بل على استحبابه، بل على وجوبه; لأن الأصل في الأمر الوجوب، ولا صارف له هنا إلى الاستحباب، ولا إلى الجواز.

وفي النكاح الآخر من الفوائد ما يطول ذكره، وفي المنع منه من المفاسد ما لا يأتي عليه الحصر، يعرف ذلك كل من يعرف أحوال النساء.

والعار منه سنة الجاهلية، وشيمة الهنود، وطريقة أهل الملل الباطلة، وأصحاب الكفر والجحود.

ومن يستنكف عما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قاله، أو قرره، أو رغب فيه، فهو عن الدين على جانب بعيد، ومن الكفر على جانب قريب.

وقد غلا جهلة الإسلام من العامة والخاصة في النهي عنه، والمنع منه للنساء [ ص: 444 ] غلوا قبيحا، وأغرقوا في ذلك إغراقا شنيعا، كأنهم ليسوا على ملة الإسلام، وأصبحوا غير مؤمنين بالله، واليوم الآخر.

وأي عار للمسلم، في اتباع السنة ؟! إنما العار في اختيار البدعة.

ومن زعم أن هذا الأمر يخالف الشرافة، فشرافته هذه شر وآفة، لا سيادة ولا سعادة.

كيف وإنما الشرف في طاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والوضع [أي. الضعة والمهانة ] ليس إلا في مخالفتهما ؟!!وقد ثبت فعله من الذين لا أحد أشرف منهم، بل من سيد الرسل الذي هو أشرف الأشراف على الإطلاق، فمن ذاك الشريف الذي يلحقه عار منه، بل من تكبر عن ذلك، واعتقد المنع منه، فهو أرذل الأراذل بلا ريب وشك.

وعاره عنه وإنكاره عليه يفضي إلى إنكار سنة عظيمة صحيحة محكمة صريحة مستفيضة، جاءت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافقها القرآن في غير موضع.

نعم الهنود، ومن ينحو نحوهم، يستنكفون عن النكاح الثاني، وهم كفار، عن الإسلام برآء، فما لنا ولهم ؟ !!وأما السنة، فهي كثيرة في هذا الباب:

منها: عن علي - عليه السلام -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي! ثلاث لا تؤخرها: 1- الصلاة إذا أتت 2- والجنازة إذا حضرت 3- والأيم إذا وجدت لها كفؤا" رواه الترمذي.

و "الأيم" : من لا زوج لها، بكرا كانت أو ثيبا، ويسمى الرجل الذي لا زوجة له: أيما أيضا.

والحديث دل على مزيد الاهتمام بشأن النكاح الثاني عند وجود الكفؤ للمرأة، والكفاءة هي الإسلام - على الأرجح-، وحسن الأخلاق.

لا ما اعتبره الفقهاء من الأمور الأخرى، التي لا مستند لها من الكتاب والسنة، ولم يشهد لها دليل منهما، ولم يعتبرها السلف الصالح.

[ ص: 445 ] فإذا وجد لها مماثل في السن، والخلق الحسن، والإسلام، وجب التعجيل، وكره التأخير.

واقتران هذا الأمر بالصلاة يدل على غاية العناية به.

ومعلوم أن الصلاة لا يساويها فرض من فرائض الدين، حتى إن كان من تركها عمدا، بلا عذر، يكفر على لسان الشارع.

فإذا قرن به الأمر بالنكاح الثاني، علم أنه واجب عليهم وعليهن، ولا يجوز التساهل والتأخير فيه.

قال صاحب "رد الشرك" : إن المكرمات من نساء العرب، اللاتي تزوجن ما فوق الواحد، كثيرات طيبات جدا:

منها: رقية، وأم كلثوم - بنتا رسول الله صلى الله عليه وسلم - كانتا تحت عتبة وعتيبة ابني أبي لهب، ثم تحت عثمان - رضي الله عنه -ومنها: أم كلثوم بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تحت عمر، ثم تحت واحد من أبناء جعفر، ثم تحت آخر منهم.

ومنها: أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تحت علي، ثم تحت مغيرة بن نوفل.

روي أن عليا أوصى عند وفاته بأن أمامة، إن شاءت أن تنكح بعدي، فلتنكح مغيرة بن نوفل، فنكحته.

ومنها: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن ما خلا عائشة.

ومنها: أم رومان زوجة أبي بكر الصديق والدة عائشة، كانت تحت عبد الله بن سنجرة، ثم تحت أبي بكر.

ومنها: أسماء بنت عميس زوجته أيضا، التي ولدت له محمد بن أبي بكر، كانت تحت جعفر بن أبي طالب، ثم تحت أبي بكر، ثم تحت علي. انتهى.

قلت: وإنك لو تتبعت كتب الحديث والسير، وجدت منهن جماعات [ ص: 446 ] عظيمة، نكحن نكاحة ثانية، ولم يلحقهن، ولا أهلهن، عار، واستنكاف أصلا قط.

وكم من السادات، والأكابر، والرؤساء والملوك، والشيوخ، والأولياء، والأصفياء، ولدتهم النساء بالنكاح الآخر، والثالث، والرابع.


فلو كان رمحا واحدا لاتقيته ولكنه رمح وثان وثالث



وهؤلاء هم أصول عظماء المسلمين، وهن أمهات أكابر المؤمنين.

فمن يرى في ذلك عارا عليه، أو على أهل بيته، فهو غريق في بحر الجهل المحيط، جاهل بالجهل المركب والبسيط، خارج عن العقل السليم، ضال عن الصراط المستقيم، طاعن على الله وعلى رسوله الكريم، عائب على السلف الصالح الفخيم. ونعوذ بالله مما كرهه الله وعاداه.

وقد ألف جماعة من أهل العلم - في إثبات هذه المسألة - رسائل مستقلة، ولا حاجة بنا إلى نقل ما فيها; فإن الكتاب والسنة ينوب عنها جميعا، والصباح يغني عن المصباح، وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ لقوم يعقلون. ومن أضله الله على علم، فإنه لا ينفعه أساطير الأولين.

التالي السابق


الخدمات العلمية