الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ شروط حمل المطلق على المقيد عند الشافعية ] إذا علمت ذلك فلحمل المطلق على المقيد عندنا على الوجه المشروح شروط .

                                                      الأول : أن يكون القيد من باب الصفات كالإيمان مع ثبوت الذوات في الموضعين ، فأما في إثبات أصل الحكم من زيادة خارجة أو عدد فلا يحمل أحدهما على الآخر ، وهذا كالإطعام في كفارة القتل ، فإن أظهر القولين أنه لا يجب ، وإن ذكره الله في كفارة الظهار ، لأن هذا إنما هو إثبات الحكم ، لا صفة . وكذلك إيجاب غسل الأعضاء الأربعة في الوضوء مع الاقتصار على عضوين في التيمم . فإن الإجماع منعقد على أنه لا يحمل إطلاق التيمم على تقييد الوضوء ليستحق تيمم الأربعة لما فيه من إثبات حكم لم يذكر ، وحمل المطلق على المقيد يختص بالصفة .

                                                      قال الماوردي : ولهذا حملنا إطلاق اليدين في التيمم على المرافق ، لتقييد ذلك في الوضوء لأن ذكر المرفق صفة ، وذكر الرأس والرجلين أصل . وممن ذكر هذا الشرط القفال الشاشي ، والشيخ أبو حامد ، وتبعه [ ص: 22 ] الماوردي ، والروياني ، ونقله المازري عن الأبهري من المالكية أيضا . لكن في تمثيل القفال والماوردي بالتيمم إلى المرافق نظر ، لأنه إثبات أصل ، إذ هو عضو زائد ، لا وصف . ولذلك لم يرد المطلق إلى تقييدها بعدد ، وقد منع أصحابنا دعوى الحنفية كون التقييد زيادة على النص ، ولا يتجه منع كونه زيادة إلا عند كون الزيادة وصفا ، أما إذا كانت ذاتا مستقلة ، فهي زيادة قطعا .

                                                      ونقل الماوردي في باب القضاء خلافا في هذه المسألة ، فجزم بما ذكرناه ، ثم نقل عن ابن خيران من أصحابنا أن المطلق يحمل على المقيد في الأصل أيضا ، فإنه تعالى ذكر الإطعام في كفارة الظهار ، ولم يذكره في كفارة القتل ، فيحمل عليها . قال : وفي هذا إثبات أصل بغير أصل . ا هـ . ومن صور المسألة أن الأصح في مذهبنا أن المحرم إذا قتل صيدا ، واختار من الخصال إخراج الطعام ، أنه يفرقه على ثلاثة مساكين فصاعدا ، لأنه أمر بإعطائه إلى جمع في قوله تعالى : { أو كفارة طعام مساكين } وأقله ثلاثة ، مع أنه ورد في كفارة الإتلاف في الحج إعطاؤها لجمع مقيدا بكونهم ستة لكل مسكين نصف صاع ، ولم يحملوا ذلك المطلق في الجمع على هذا المقيد ، وما ذاك إلا لأن في حمله زيادة أجرام وهي ثلاثة مساكين وإلا فلم لا يحمل ؟

                                                      الشرط الثاني : أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد كاشتراط العدالة في الشهود على الرجعة والوصية ، وإطلاق الشهادة في البيوع وغيرها ، فهي شرط في الجميع ، وكذا تقييده ميراث الزوجين بقوله : { من بعد وصية توصون بها أو دين } وإطلاقه الميراث فيما أطلق فيه ، وكان ما أطلق من المواريث كلها بعد الوصية والدين . فأما إذا كان المطلق دائرا بين قيدين متضادين نظر ، فإن كان السبب [ ص: 23 ] مختلفا لم يحمل إطلاقه على أحدهما إلا بدليل ، فيحمل على ما كان القياس عليه أولى ، أو ما كان دليل الحكم عليه أقوى ، ذكر هذا الشرط الأستاذ أبو منصور ، والشيخ أبو إسحاق في " اللمع " وإلكيا . وحكى القاضي عبد الوهاب فيه الاتفاق ، وليس كذلك . فقد حكى القفال الشاشي فيه خلافا لأصحابنا ، ولم يرجح شيئا .

                                                      وممن ذكره الماوردي في باب الكفارات ، ومثله بالصيام في كفارة اليمين ، فإن في وجوب تتابعه قولين ، أصحهما المنع ، لأنه دائر بين قيدين : أحدهما يوجب التتابع ، وهو صوم الظهار كما في قوله تعالى : { فصيام شهرين متتابعين } والآخر ، يوجب التفرقة ، وهو صوم التمتع في قوله : { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } وليس حمله على أحدهما أولى من حمله على الآخر . فترك على إطلاقه ، فيكون مخيرا بين التتابع فيه والتفريق ، كقضاء رمضان ، لما أطلق ، وهو بين هذين القيدين حمل على إطلاقه . ا هـ . وتبعه الروياني في مواضع منها : كفارة اليمين ، قال : هذا مما سبق إليه الشافعي ، ولم يسبق فيه .

                                                      ومثله بعضهم بغسل اليدين في الوضوء ، فإنه ورد مقيدا بالمرافق ، وقطعها في السرقة مقيد بالكوع بالإجماع ، ومسحهما في التيمم ورد مطلقا ، فهل يلحق بالقطع أو بالغسل ؟ هذا مأخذ الخلاف . قال : والأصح حمله على ما هو أشبه به من المقيدين ، فيلحق بالغسل ، لأن التيمم بدله . وقال إلكيا : يجب الوقف ، إذ لا قياس . فإن غلب أحد الشيئين تحقق القياس .

                                                      وقال صاحب " المعتمد " وتبعه في " المحصول " : إن من لا يرى تقييد المطلق بالمقيد أصلا ، لا يقيده هنا بأحدهما ، ومن يرى التقييد من اللفظ لا يراه أيضا ، لأنه ليس بأن يقيد بأحدهما أولى من الآخر ; وأما من يراه [ ص: 24 ] بالقياس فألحقه بأحدهما إذا كان القياس عليه أولى من القياس على الآخر . ا هـ .

                                                      وعلى هذا فقيل يحمل على الكفارة في الظهار والقتل ، لأنها أقرب إليه في القياس لاشتراكهما في الكفارة ، بخلاف واجب التتابع ، ولذلك كان للشافعي في كفارة اليمين في المسألة قولان : الجديد عدم وجوب التتابع وهذا البناء فيه نظر ، والأقرب أن القولين إنما جاء في وجوب التتابع من أجل أن القراءة الشاذة حيث لم تجر مجرى التفسير ، ولم يعارضها خبر ، هل يجب العمل بها أم لا ؟ وما ذكروا من وجوب التفريق في التمتع ليس بين الأيام كلها ، بل بين الثلاثة والسبعة ، وإن كان السبب واحدا كما في حديث الولوغ ، فإنه روي : إحداهن ، وأولاهن ، وأخراهن ، فالمطلق على إطلاقه ; إذ ليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر ، والقياس هنا متعذر ، فيتعارضان ، وبقي المطلق على إطلاقه ، ونقول بجواز التعفير في كل واحدة من المرات عملا برواية إحداهن المطلقة . هكذا ذكره الأصوليون . ومنهم صاحب " المحصول " وبه أجاب القرافي عن اعتراض أورده بعض قضاة الحنفية على الشافعية . فإن قاعدتهم حمل المطلق على المقيد ، فكان ينبغي : أولاهن ، لورود إحداهن وأولاهن ، فأجابه القرافي ، بأنه قد عارض رواية أولاهن رواية أخراهن ، يريد بذلك ، { وعفروه الثامنة بالتراب } . ويرجع إلى أصل الإطلاق . وما ذكره القرافي ممنوع ، لأنا لا نسلم البقاء على الإطلاق ، بل يحمل عليهما على معنى التخيير ، ومنع إجزاء المتوسط ، فلا يجوز أن يكون التراب إلا في الأولى أو في الأخيرة دون ما سواهما ، حملا للمطلق على المقيدين المذكورين على طريق البدل ، وعلى ذلك نص الشافعي في " البويطي " [ ص: 25 ] وذكره المرعشي من أصحابنا وغيره . والعجب من قول الشيخ في " شرح الإلمام " في رواية : أولاهن أو أخراهن : الأقرب أنه شك من الراوي ، فإنا لا نعلم أحدا يقول بتعين الأولى أو الأخيرة فقط ، بل إما بتعين الأولى أو التخيير بين الجميع . ا هـ .

                                                      وقيل : بل على هذا ينبغي إيجاب كل منهما : الأولى والأخيرة لورود الحديث فيهما ، ولا تنافي في الجمع بينهما ، اللهم إلا أن يراد بالثامنة التعدد لا الأخيرة ، فإنه حينئذ يكون مطلقا كإحداهن ، وتكون رواية إحداهن ، والثامنة واحدة . ومعنى رواية أولاهن يعود أصل السؤال ، ومنهم من رده بأن رواية : أخراهن مساوية لإحداهن ، فيبقى قيد وهو أولاهن فيحمل المطلق حينئذ عليه . وهذا مردود ، لأن أخراهن مؤنث آخر - بكسر الخاء - ، لا مؤنث آخر - بفتحها - ، وذاك لا يضاف ، وهاهنا قد وقع مضافا ، فعلم أنه مؤنث آخر ، فجاء القيدان . ومنهم من رده بأن شرط التعارض تساوي الروايات وعدم وجود الترجيح في أحدها ، فأما إذا وجد ذلك وجب العمل بالراجح وإطراح المرجوح ، لامتناع إسقاط الراجح بمعارضة المرجوح . ذكره الشيخ في " شرح الإلمام " . واعلم أن هذا السؤال لازم للحنفية ، فإنهم يحملون المطلق على المقيد إذا اتفق السبب والحكم ، وهو هاهنا كذلك . ويناظر هذا السؤال سؤالان آخران : أحدهما : أن أبا حنيفة قال : لا يجري التحالف بين المتبايعين ، إلا إذا [ ص: 26 ] كانت السلعة قائمة ، أما إذا كانت تالفة فالقول قول المشتري ، وعندنا يتحالفان مطلقا ، مع أنه روي عنه عليه السلام أنه قال : { إذا اختلف المتبايعان تحالفا } . وروي زيادة : ( والسلعة قائمة ) فلم لا حمل المطلق على المقيد مع اتحاد القاعدة ؟ وجوابه : أنه ورد التقييد بقيد آخر مضاد للقيد السابق ، وهو قوله : { إذا اختلف المتبايعان والمبيع مستهلك فالقول قول البائع } . رواه الدارقطني . فرجعنا إلى أصل الإطلاق . وأيضا فالقيدان ضعيفا الإسناد . وقول الغزالي في المأخذ ما يرويه أصحابنا من التقييد بالهلاك أجمع أهل الحديث على صحته : باطل .

                                                      الثاني : أن في كتاب فريضة الصدقة في فريضة الإبل : { فإن زادت على العشرين ومائة } وهو مطلق في الزيادة ، وجاء مقيدا في حديث ابن عمر : ( فإن زادت واحدة ) فلا ينبغي أن يجب في مائة وعشرين وبعض واحدة إلا ما يجب في مائة وعشرين فقط . وهذا السؤال إنما يرد على الإصطخري القائل بوجوب ثلاث بنات لبون فيما إذا زادت بعض واحدة . والصحيح أنه إنما يجب حقتان ، وفاء بحمل المطلق على المقيد ، فاندفع السؤال . تنبيه

                                                      حيث قلنا بأصل الإطلاق في الصورة المذكورة فيجب حمل [ كل ] واحد من المقيدين على تقييده . قاله الماوردي والروياني في باب القضاء . قالا : فأما حمله على مقيد نظيره ، فينظر في صفتي التقييد فيهما ، فإن تنافى الجمع بينهما لم يحمل أحدهما على الآخر ، واختص كل واحد بصفته التي قيد بها ، [ ص: 27 ] وذلك مثل تقييد كفارة الظهار بالتتابع ، وصوم التمتع بالتفريق ، فلا يمكن الجمع بين التتابع والتفريق ، فيخص كل واحد منهما بصفة ، وإن أمكن اجتماع الصفتين ولم يتنافيا ففي حمل كل واحد منهما على تقييد نظيره وجهان : أحدهما : لا يحمل إلا على ما قيد به ، إذا قلنا المطلق لا يحمل على المقيد إلا بدليل .

                                                      والثاني : يحمل على تقييده وتقييد نظيره بنظير كل واحد منهما مقيدا بالصفتين ، إذا قلنا : يجوز حمل المطلق على المقيد ، فعلى هذا يجوز أن يحمل ما أطلق من جنسهما على تقيدهما معا ، ويصير كل واحد منهما من النصوص الثلاثة المتجانسة مقيدا بشرطين . ا هـ .

                                                      الشرط الثالث : أن يكون في باب الأوامر والإثبات ، وأما في جانب النفي والنهي فلا ، فإنه يلزم منه الإخلال باللفظ المطلق مع تناول النهي . وهو غير سائغ . ذكره الآمدي وابن الحاجب . قال : لا خلاف في العمل بمدلولهما والجمع بينهما ، لعدم التعذر فإذا قال : لا تعتق مكاتبا ، لا تعتق مكاتبا كافرا ، لم يعتق مكاتبا كافرا ولا مؤمنا أيضا إذ لو أعتقه لم يعمل فيهما ، لكن صاحب " المحصول " سوى بين الأمر والنهي في الحمل ، ورد عليه القرافي بمثل ما ذكره الآمدي .

                                                      وأما الأصفهاني فتبع صاحب " المحصول " وقال : حمل المطلق على المقيد لا يختص بالأمر والنهي ، بل يجري في جميع أقسام الكلام ، نقول في الخبر : جاءني رجل من آل علي ، ثم تقول : جاءني بقية العلويين . ومثال التمني : ليت لي مالا ثم تقول : ليت لي جملا فإنه يحمل عليه . [ ص: 28 ] قال : وإنما خص الأئمة الكلام بالأمر والنهي للحاجة إليهما في معرفة الأحكام الشرعية ، ولأنه إذا تحقق الأمر والنهي سهل تعديته إلى بقية أقسام الكلام . ا هـ . وخالف في ذلك الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في كتابه في الأصول ، فقال : فما كان في حكم واحد ، كان أحدهما مبنيا على الآخر ، كقوله عليه السلام : { لا نكاح إلا بولي وشاهدين } ، مع قوله : { لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل } .

                                                      ثم قال : وتحقيقه أن الجمع بين الألفاظ الواردة في الشريعة واجب على الثاني فما كان مكررا منه كان للتأكيد ، وما كان مفردا كان مستعملا على الترتيب . فإذا روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله : { لا نكاح إلا بولي وشاهدين } ، وروي عنه : { لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل } جمع بين الروايتين ، فكان قوله الأول المطلق داخلا في الثاني ، وحمل على التكرار ، واستعمل أحدهما مع الوصف . ا هـ .

                                                      وقد يقال : لا يتصور توارد المطلق والمقيد في جانب النفي ولا النهي ، وما ذكروه من المثال إنما هو من قبيل إفراد بعض مدلول العام بحكم ، وفيه ما تقدم من خلاف أبي ثور ، فلا وجه لذكره هاهنا . وقد خرجه الهندي على أن مفهوم الصفة حجة أم لا ؟ فمن أنكره لم يخصص ، ومن قال به ، خصص النهي العام به . وممن ذكر هذا الشرط ابن دقيق العيد وشرطه أيضا في حمل العام على الخاص ، ومثله بحديث : { لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه } ، وجاء في رواية : ( وهو يبول ) فالأولى مطلقة ، والثانية مقيدة ، لكن في تقييده بحالة [ ص: 29 ] البول تنبيه على رواية الإطلاق ، وأولى لأنه إذا كان النهي عن المس باليمين حالة الاستنجاء مع مظنة الحاجة إليها فغيره من الحالات أولى . ومن العلماء من خصص النهي بمس الذكر بحالة البول أخذا بظاهر الحديث . ومنهم من أخذ بالنهي عن مسه مطلقا أخذا بالإطلاق .

                                                      ثم قال : وينظر إن كانا حديثين فالمعنى على ما ذكرناه ، ويقدم أحدهما على الآخر ، وإن كان حديثا واحدا ، ومخرجه واحد ، واختلف عليه الرواة ، فينبغي حمل المطلق على المقيد ، ويكون زيادة من عدل ، وهي مقبولة عند الأصوليين والمحدثين . وهذا أيضا يكون بعد النظر في دلالة المفهوم ، وما يعمل به منه ، وما لا يعمل به ، وبعد أن ينظر في تقديم المفهوم على ظاهر العموم .

                                                      ثم قال الشيخ في موضع آخر : وهذا كله مبني على ما يقوله بعضهم من أن العام في الذوات مطلق في الأحوال والأزمنة ، وأما على ما نختار نحن من العموم في الأحوال تبعا للعموم في الذوات ، فهو من باب العام والخاص . انتهى . وبهذا يسهل جعل هذه الصورة من باب المطلق والمقيد .

                                                      تنبيه

                                                      سبق في باب العموم خلاف في أن التخصيص هل يدخل في الخبر كما في الأمر والنهي أو لا ؟ وينبغي جريان هذا الخلاف هنا حتى يشترط على قول كونهما من باب التكليف لا من باب الخبر . ا هـ .

                                                      الشرط الرابع : [ لا ] أن يكون في جانب الإباحة ، ذكره ابن دقيق العيد أيضا في الكلام على لبس المحرم الخف . وقال : إن المطلق لا يحمل على المقيد في جانب الإباحة إذ لا تعارض بينهما ، وفي المطلق زيادة . انتهى . وفيه نظر .

                                                      [ ص: 30 ] الشرط الخامس : أن لا يمكن الجمع بينهما ، فإن أمكن تعين إعمالهما ، فإنه أولى من تعطيل ما دل عليه أحدهما : ذكره ابن الرفعة في " المطلب " في الأصول والثمار . ومثاله حديث ابن عمر : { من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع } ، وجاء في رواية : { من ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع } . فإن الرواية الأولى تقتضي أن بعض العبيد لا يكون له مال ، فيكون الإضافة فيه للتمليك ، والمال فيه محمول على ما يملكه السيد إياه ، وليس كل عبد يملكه السيد مالا . والثانية تشمل كل عبد ، فكانت الإضافة فيها إضافة تخصيص لا تمليك ، فيحمل على ثيابه التي عليه ، لأن كل عبد لا بد له من ثياب يختص بها . قال : فهذه الرواية مطلقة ، تنزل على ما ذكرناه . وهو أولى من تقييدها بحالة تمليك السيد المال له . قال : ولا يحمل المطلق على المقيد هنا لأن الجمع ممكن .

                                                      الشرط السادس : أن لا يكون المقيد ذكر معه قدر زائد يمكن أن يكون القيد لأجل ذلك القدر الزائد . فلا يحمل المطلق على المقيد هنا قطعا ، مثاله : إن قتلت ، فأعتق رقبة ، مع : إن قتلت مؤمنا فأعتق رقبة مؤمنة ، فلا يحمل المطلق هناك على المقيد هنا في المؤمنة ، لأن التقييد هنا إنما جاء للقدر الزائد ، وهو كون المقتول مؤمنا .

                                                      واعلم أن مذهبنا أن الردة لا تحبط العمل إلا بشرط الوفاة على الكفر ، وعند أبي حنيفة تحبط بمجرد الردة ، واحتج أصحابنا بقوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } وأما قوله : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } فمطلق ، قيدت به الآية السابقة . هكذا قالوا ، وفيه نظر لما في القيد من القدر الزائد ، وهو الخلود في النار . وأيضا فليست الآيتان من باب المطلق والمقيد ، بل من باب العام والخاص ، فنعمل الخاص ، على أن الآية التي تمسك بها الحنفية مقيدة ، وهو قوله تعالى : [ ص: 31 ] { وهو في الآخرة من الخاسرين } فبين أن المراد من مات على الكفر ، لأن من مات مؤمنا لا يكون في الآخرة خاسرا ، فالمراد في الآيتين التقييد ، وليس فيهما مطلق ومقيد ، على أن الشافعي نص في " الأم " على أن الردة بمجردها تحبط العمل ، وإن لم تتصل بالموت ، على معنى ذهاب الأجر .

                                                      الشرط السابع : أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد ، مثاله قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } الآية . فلم يقيد بالدخول ، وقيد به في عدة الطلاق بقوله : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة } ولم يحملوا المطلق هناك على المقيد لقيام المانع ، وهو أن تقييد المطلق أو تخصيص العام إنما يكون بقياس أو مرجح ، وهو هنا منتف لأن المتوفى عنها زوجها أحكام الزوجية باقية في حقها بدليل أنها تغسله ، وترث منه اتفاقا . ولو كانت في حكم المطلقات البوائن لم ترث ، فلما ظهر في الفرع ما يقتضي عدم إلحاقه بالأصل امتنع التقييد بالقياس أو التخصيص به . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية