الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [77] قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

                                                                                                                                                                                                                                      قل يا أهل الكتاب أي: الذي هو ميزان العدل: لا تغلوا في دينكم غير الحق أي: لا تتجاوزوا الحد في تعظيم عيسى وأمه، وترفعوهما عن رتبتهما إلى ما تقولتم عليهما من العظيمة، فأدخلتم في دينكم اعتقادا غير الحق بلا دليل عليه، مع تظاهر الأدلة على خلافه. ونصب (غير) أنه صفة لمصدر محذوف، أي: غلوا غير الحق. يعني غلوا باطلا. أو حال من ضمير الفاعل أي: مجاوزين الحق. و (الغلو) نقيض التقصير، ومعناه الخروج عن الحد; وذلك لأن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط، ودين الله بين الغلو والتقصير.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      دلت الآية على أن الغلو في الدين غلوان: (غلو حق) كأن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه; و (غلو باطل) وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2107 ] قال بعض الزيدية: دلت الآية على أن الغلو في الدين لا يجوز، وهو المجاوزة للحق إلى الباطل. ومن هذا: الغلو في الطهارة مع كثير من الناس، بالزيادة على ما ورد به الشرع لغير موجب. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا القبيل الغلو في تعظيم الصالحين وقبورهم حتى يصيرها كالأوثان التي كانت تعبد.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين » .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن عمر; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» . أخرجاه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولمسلم عن ابن مسعود; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون » ! قالها ثلاثا. ثم نهاهم تعالى عن اتباع سلفهم وأئمتهم الضالين بقوله سبحانه:

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تتبعوا قال المهايمي: أي: تقليدا: أهواء قوم تمسكوا بخوارقهما على إلهيتهما. فإن نظروا إلى سبقهم [ ص: 2108 ] فغايتهم أنهم: قد ضلوا من قبل إلى كثرة أتباعهم فغايتهم أنهم: أضلوا كثيرا ممن شايعهم على التثليث: "و" إلى تمسكهم بمتشابهات الإنجيل، فغايتهم أنهم: ضلوا عن سواء السبيل إذ لم يردوها إلى المحكمات.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: قال الرازي:

                                                                                                                                                                                                                                      الأهواء - ههنا - المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة. قال الشعبي: ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه. قال: ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله واتبع هواه فتردى وما ينطق عن الهوى أرأيت من اتخذ إلهه هواه . قال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر. لا يقال: فلان يهوى الخير. إنما يقال: يريد الخير ويحبه. وقال بعضهم: الهوى إله يعبد من دون الله. وقيل: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد في ذم الهوى:


                                                                                                                                                                                                                                      إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا



                                                                                                                                                                                                                                      وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هواي على هواك، فقال ابن عباس: كل الهوى ضلالة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2109 ] الثاني: قال الرازي أيضا: إنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال: فبين أنهم كانوا ضالين من قبل، ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم، ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى إنهم الآن ضالون كما كانوا. ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقاب الله تعالى، من هذه الحالة. نعوذ بالله منها. ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم، في ذلك الإضلال، أنه إرشاد إلى الحق. ويحتمل أن يكون المراد بالضلال عن الدين، وبالضلال عن طريق الجنة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الوجوه - مع ما أسلفناه عن المهايمي - كلها مما يصح إرادتها من الآية لتصادقها جميعا عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: دلت الآية على أن ما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل - مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول - لا مستند ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم الضالين، الذين أحدثوا القول بالتثليث بعد نحو ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عليه السلام. وقرروه في تعاليمهم بعد جدال واضطراب. وتمسكوا في ذلك بظواهر الألفاظ التي لا يحيطون بها علما، مما لا أصل له في شرع الإنجيل، ولا مأخوذ من قول المسيح ولا من أقوال حوارييه. وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت، يكذب بعضه بعضا، ويعارضه ويناقضه، كما تبين من الكتب المصنفة في الرد عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: جاء في "تنوير المقباس":

                                                                                                                                                                                                                                      إن المراد ب (أهل الكتاب) هنا: نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبقوله: ولا تتبعوا أهواء قوم العاقب والسيد. والأول - كما قال ابن إسحاق - أمير القوم وذا رأيهم. والثاني صاحب رحلهم ومجتمعهم.

                                                                                                                                                                                                                                      والأظهر أن المعني ب (أهل الكتاب) عموم النصارى. والمذكورون يدخلون فيه دخولا أوليا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2110 ] الخامس: ذكر كثير من المفسرين: أن المراد ب (أهل الكتاب) هنا: اليهود والنصارى. وأن كليهما غلا في عيسى عليه السلام: أما غلو اليهود فالتقصير في حقه حتى نسبوه إلى غير رشدة. وأما غلو النصارى فمعلوم. وأن الخطاب في قوله تعالى: ولا تتبعوا أهواء قوم لليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر أن ما نسب للفريقين - من الغلو والابتداع - مسلم. بيد أن الأقرب للسباق الداحض لشبهات النصارى، أن تكون هذه الآية فيهم زجرا لهم عما سلكوه، إثر إبطاله بالبراهين الدامغة. على أن الغلو ألصق بالنصارى منه باليهود، كما لا يخفى. والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل فيما أنزله على داود وعيسى عليهما السلام. بسبب عصيانهم وما عدد من كبائرهم. فقال سبحانه:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية