الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 2635 ] ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة

                                                          (الواو) هنا عاطفة على نتيجة الجملة السابقة; لأن نتيجة يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا أن يفتروا، فكان العطف عليه ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة فالإغواء بزخرف القول غرهم فأفسدهم وأفسد من هم على شاكلتهم، وهم الذين لا يؤمنون بالآخرة، وتصغى معناها تميل، أي: تميل قلوب أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولم يقل: الجاحدون بالآيات، بل ذكر الذين لا يؤمنون بالآخرة; ليشير إلى سبب الكفر وهو عدم الإيمان بالآخرة، ذلك أن الإيمان بالآخرة مقياس الإيمان، وهو ما يفصل قلب المؤمن عن قلب الكافر، فقلب الكافر لا يتسع إلا لما هو مادي محسوس، ولا ينظر إلى ما هو مغيب مستور، فهو لا يؤمن بأن وراء الحياة التي يعيشها حياة أخرى فيها جزاء ما يكون في هذه الحياة; ولذلك كان من أوصاف المتقين كما قال تعالى: الذين يؤمنون بالغيب فالإيمان بالغيب إيمان بسر الوجود وغايته ونهايته، وإنه لا نهاية لها بالقبور، أما الكافرون الجاحدون فيقولون كما حكى القرآن: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين

                                                          وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون

                                                          ليميل أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة إلى زخرف الشيطان، وتغرير بالغرور، يحسبون أنه الغاية فهو سبيلهم وإذا رضوه عملوا بمقتضاه، وارتكبوا من الآثام ما هو غايته ونهايتهم، وهذا معنى قوله: وليقترفوا ما هم مقترفون والاقتراف معناه الاكتساب، وهو أكثر ما يكون في اكتساب ما لا يحس وما ليس بخير، وأصل مادة "قرف" أن يقول ما ليس بحق؛ يقال: قرفتني إذا رميتني ما ليس في، فهو في القول الرمي بالباطل، وفي الأفعال اكتساب ما فيه إثم أو ما تكون عاقبته إثما.

                                                          [ ص: 2636 ] وإن هذا النص الكريم يبين كيف يبتدئ الشر في النفس:

                                                          فهو يبتدئ أولا: بالميل إليه واستحسانه، وكما يقول الدارسون للنفس الإنسانية: أول الشر استحسانه. وثانيا: بالرضا به خلقا وقولا، فالرضا أعلى من الميل المجرد في مراتب الإدراك النفسي والقلبي. وثالثا: بالعمل على مقتضى ما مال إليه وارتضاه; ولذا ختم الآية بقوله جل كلامه عن الشبيه والمماثل: وليقترفوا ما هم مقترفون أي: ليرتكبوا من المعاصي ما شاءوا أن يرتكبوا حتى يكون اقتراف المعاصي وصفا ملازما لهم لا يفترقون وهناك بقراءة اللام بالسكون في قوله تعالى: (وليقترفوا) ويكون الأمر للتهديد، والإشارة إلى فساد طواياتهم، كأنه وراء الرضا الارتكاب، فليرتكبوا، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" كأنه لا حاجز بين الإنسان والشر إلا الرضا به، فإذا رضي فقد زال وفتح باب الشر فليلج فيه. وهذا يدل على التهديد والإنذار ببلوغ نهاية الشر، والوصول إلى غايته، فليفعل ما يشاء والعاقبة والمآل إلى الله، وهو يستقبلهم بعذاب جهنم وبئس المصير.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية