الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

* وأما السؤال عن المعراج، هل عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة أو مناما؟

فالجواب: أن الذي عليه جماهير السلف والخلف أنه كان يقظة، ويدل على ذلك قوله تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله [الإسراء: 1]، وقوله: ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة [ ص: 46 ] المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى [النجم: 13 - 18].

ومعلوم أن قوله تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده تعظيم لهذه الآية وتسبيح الرب الذي فعلها، والتسبيح يكون عند الأمور العجيبة العظيمة الخارجة عن العادة. ومعلوم أن عامة الخلق يرى أحدهم في منامه الذهاب من مكة إلى الشام، وليس هذا مما يذكر على هذا الوجه من التعظيم، وهو سبحانه ذكر في تلك السورة ما يتمكن الرسول من ذكر الشواهد ودلائله، فإنهم لما أنكروا الإسراء، وقد علموا أنه لم يكن رأى بيت المقدس، فسألوه عن صفته ليبين لهم هل هو صادق، فأخبرهم عن صفته خبر من عاينه، وأخبرهم عن عير كانت لهم بالطريق، ولو كان مناما لما اشتد إنكارهم له، ولا سألوه عن صفته، فإن الرائي قد يرى الشيء في المنام على خلاف صفته.

ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى [النجم: 13 - 18] صريح في أن بصره رأى ما رآه في الملإ الأعلى، وأنه ما زاغ بصره وما طغى. وقد ثبت أن جنة المأوى وسدرة المنتهى في السماء لا في الأرض، فإذا رأى بعينه ما هنالك امتنع أن [ ص: 47 ] يكون ذلك مناما، ودل ذلك على أن جسده كان هنالك، ولكنه سبحانه ذكر في سورة سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لأنه مما ذكر له دلائله وشواهده [و] ذلك تمهيدا لما أخبر به عن رؤية ما رآه عند سدرة المنتهى، والقرآن يدل على ذلك حيث قال: علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى [النجم: 5 - 7]، كما قال في الآية الأخرى: ولقد رآه بالأفق المبين [التكوير: 23]، ثم قال في النجم: ولقد رآه أي رأى الذي رآه بالأفق الأعلى مرة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى .

وهذا قول أكثر السلف كابن مسعود وعائشة وغيرهما. وقالت طائفة منهم ابن عباس: إن محمدا رأى ربه بفؤاده مرتين. ولم يقل أحد من الصحابة ولا من الأئمة المعروفين كأحمد بن حنبل وغيره: إنه رآه بعينه، ولا في أحاديث المعراج الثابتة شيء من ذلك، وقد نقل بعضهم ذلك عن ابن عباس، وقد نقلوه رواية عن أحمد بن حنبل، وهو غلط على ابن عباس وعلى أحمد، كما بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، ولكن جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث أنه رأى ربه في المنام [ ص: 48 ] بالمدينة، ولم يكن ذلك ليلة المعراج; فإن المعراج كان بمكة.

وقد اتفق السلف والأئمة على أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم في الآخرة، وفي عرصات القيامة، وفي الجنة. واتفقوا على أن أحدا من البشر لا يرى الله بعينه في الدنيا، لم يتنازعوا إلا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والذي عليه الأئمة والأكابر من السلف أنه لم يره بعينه في الدنيا أحد، وقد ثبت في « صحيح مسلم» وغيره عن أبي ذر أنه قال: « سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: « نور أنى أراه؟». وما يذكره بعض الناس من أنه قال لأبي بكر: « رأيته»، وقال لعائشة: « لم أره» فهو من الأكاذيب التي لم يروها أحد من علماء الحديث، بل اتفقوا على أن ذلك كذب. وثبت في « صحيح مسلم» وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت».

وأما رؤية جبريل بعينه منفصلا عنه يقظة; فهذا مما نطق به الكتاب والسنة واتفق عليه المسلمون، وإنما ينازع في ذلك المتفلسفة القائلون بأن جبريل هو خيال يتخيل في نفسه، أو أنه العقل الفعال، ويقولون: إن هذا لا يمكن رؤيته بالعين، وهذا القول كفر بالأنبياء، [ ص: 49 ] وإن ما جاء به مخالف لدين المسلمين واليهود والنصارى.

وقد أخبر الله عن الملائكة وصفاتهم، وتصورهم في صورة البشر في القرآن وغيره مما يخالف قول هؤلاء الملاحدة، وإثبات رؤيته لجبريل، وأن جبريل ملك عظيم ـ ليس هو خيالا في النفس، ولا هو مما يذكره المتفلسفة من العقول التي لا حقيقة لها إلا أمورا مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان ـ هو من أعظم أصول الإسلام والإيمان، وذلك واجب، بخلاف رؤية محمد ربه بعينه; فإن هذا ليس يجب اعتقاده عند أحد من أئمة المسلمين، ولا نطق به كتاب ولا سنة صحيحة، ولا قاله أحد من الصحابة، ولا من الأئمة المشهورين، كالأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين.

وقد حكى غير واحد من [العلماء] إجماع المسلمين ـ كعثمان بن سعيد الدارمي وغيره ـ على أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعينه.

وأما من يدعي إجماع أهل السنة، أو إجماع المسلمين المثبتين للرؤية في الآخرة، على أن محمدا رأى ربه بعينه ليلة المعراج، كما يذكر [ ص: 50 ] ذلك بعض الناس، مثل ابن شكر المصري ونحوه، فهذا كلام جاهل بالكتاب والسنة وكلام السلف.

وقد زعم طائفة أن المعراج كان مرتين: مرة مناما، ومرة يقظة. ومنهم من جعله ثلاث مرات، والصواب أنه كان مرة واحدة، وتلك الليلة فرضت الصلوات الخمس، ولم يكن هذا إلا مرة واحدة لم تفرض مرتين، ولكن بعض الناس غلط في بعض ما نقله; فقيل: إنه كان قبل النبوة مناما، وأن تلك الليلة فرضت الصلوات الخمس قبل فرضها بعد النبوة، وهذا غلط.

التالي السابق


الخدمات العلمية