الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة يحتجون على النفاة بما وافقوهم عليه من نفي الصفات، والإعراض عن دلالة الآيات، كما ذكر ذلك ابن سينا في "الرسالة الأضحوية" التي صنفها في المعاد لبعض الرؤساء الذين طلب تقربه إليهم ليعطوه مطلوبه منهم من الجاه والمال، وصرح بذلك في أول هذه الرسالة.

قال فيها لما ذكر حجة من أثبت معاد البدن، وأن الداعي لهم إلى ذلك ما ورد به الشرع من بعث الأموات فقال: "وأما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد: وهو أن [ ص: 11 ] الشرع والملة الآتية على لسان نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة. ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد: من الإقرار بالصانع: موحدا مقدسا عن: الكم، والكيف، والأين، ومتى، والوضع، والتغير. حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحدة، لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع، أو يكون لها جزء وجودي: كمي أو معنوي، ولا يمكن أن تكون خارجة عن العالم ولا داخلة فيه، ولا حيث تصح الإشارة إليه أنه هنا أو هناك: ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور، ولو ألقي هذا على هذه الصورة إلى العرب العاربة أو العبرانيين الأجلاف، لتسارعوا إلى العناد، واتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه إيمان بمعدوم أصلا. ولهذا ورد ما في التوراة تشبيها كله، ثم إنه لم يرد في الفرقان من الإشارة إلى [ ص: 12 ] هذا الأمر الأهم شيء، ولا إلى صريح ما يحتاج إليه في التوحيد بيان مفصل، بل إلى بعضه على سبيل التشبيه في الظاهر، وبعضه جاء تنزيها مطلقا عاما جدا، لا تخصيص ولا تفسير له. وأما الأخبار التشبيهية فأكثر من أن تحصى، ولكن لقوم أن لا يقبلوه، فإذا كان الأمر في التوحيد هذا، فكيف فيما هو بعده من الأمور الاعتقادية؟! ولبعض الناس أن يقولوا: إن للعرب توسعا في الكلام ومجازا، وإن الألفاظ التشبيهية مثل: اليد، والوجه، والإتيان في ظلل من الغمام، والمجيء، والذهاب، والضحك، والحياء، والغضب – صحيحة، ولكن نحو الاستعمال وجهة العبارة يدل على استعمالها مستعارة مجازا".

قال: "ويدل على استعمالها غير مجازية ولا مستعارة - بل [ ص: 13 ] محققة - أن المواضع التي يوردونها حجة في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارة والمجاز على غير معانيها الظاهرة، مواضع في مثلها يصلح أن تستعمل على غير هذا الوجه، ولا يقع فيها تلبيس ولا تدليس. وأما قوله في ظلل من الغمام [البقرة: 210] وقوله هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك [الأنعام: 158] على القسمة المذكورة، وما جرى مجراه، فليس تذهب الأوهام فيه ألبتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية. فإن كان أريد فيها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والشبهة والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحا. وأما قوله: يد الله فوق أيديهم [الفتح: 10] وقوله: ما [ ص: 14 ] فرطت في جنب الله [سورة الزمر: 56] فهو موضع الاستعارة والمجاز والتوسع في الكلام، ولا يشك في ذلك اثنان من فصحاء العرب، ولا يلتبس على ذي معرفة في لغتهم، كما يلتبس في تلك الأمثلة فإن هذه الأمثلة لا يقع شبهة في أنها مستعارة مجازية، كذلك في تلك لا يقع شبهة في أنها ليست استعارية ولا مرادا فيها شيء غير الظاهر. ثم هب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة، فأين التوحيد؟! والعبارة المشيرة بالتصريح إلى التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة؟!".

التالي السابق


الخدمات العلمية