الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر ، تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات ، لكن كثير منهم لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات ، وقرروا ذلك بطرق مضطربة ، والتزم كثير منهم إنكار خرق العادات لغير الأنبياء ، حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر ، ونحو ذلك .

ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح ، لكن الدليل غير محصور في المعجزات ، فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين ، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين . بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما ، وتعرف بهما ، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة ، فكيف بدعوى النبوة ؟ وما أحسن ما قال حسان رضي الله عنه :


[ ص: 141 ] لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر

وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه - ما ظهر لمن له أدنى تمييز . فإن الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور ، ولا بد أن يفعل أمورا [ يبين بها صدقه ] . والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة . والصادق ضده . بل كل شخصين ادعيا أمرا : أحدهما صادق والآخر كاذب - لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة ، إذ الصدق مستلزم للبر ، والكذب مستلزم للفجور ، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، [ وإن ] البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق [ ويتحرى الصدق ] ، حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند [ ص: 142 ] الله كذابا . ولهذا قال تعالى : هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ( الشعراء : 221 - 226 ) . فالكهان ونحوهم ، وإن كانوا أحيانا يخبرون بشيء من الغيبيات ، ويكون صدقا - فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن ملك ، وليسوا بأنبياء ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد : قد خبأت لك خبيئا ، فقال : هو الدخ - قال له النبي صلى الله عليه وسلم : اخسأ ، فلن تعدو قدرك يعني : إنما أنت كاهن . وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يأتيني [ ص: 143 ] صادق وكاذب . وقال : أرى عرشا على الماء ، وذلك هو عرش الشيطان وبين أن الشعراء يتبعهم الغاوون ، والغاوي : الذي يتبع هواه وشهوته ، وإن كان ذلك مضرا له في العاقبة .

فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله - علم علما يقينا أنه ليس بشاعر ولا كاهن .

والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة ، حتى في المدعي للصناعات والمقالات ، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة ، وعلم النحو والطب والفقه وغير ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية