الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 396 ] قوله عز وجل:

إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون

قوله تعالى: إن الذين كفروا الآية، محكمة في الذين وافوا على كفرهم، واختلف في معنى قوله: والناس أجمعين وهم لا يلعنون أنفسهم، فقال قتادة ، والربيع : المراد بـ "الناس": المؤمنون خاصة. وقال أبو العالية : معنى ذلك في الآخرة، وذلك أن الكفرة يلعنون أنفسهم يوم القيامة. وقالت فرقة: معنى ذلك أن الكفرة يقولون في الدنيا: لعن الله الكافرين، فيلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون.

وقرأ الحسن بن أبي الحسن : "والملائكة والناس أجمعون" بالرفع على تقدير: يلعنهم الله.

واللعنة في هذه الآية تقتضي العذاب فلذلك قال: خالدين فيها ، والضمير عائد على اللعنة، وقيل: على النار، وإن كان لم يجر لها ذكر لثبوتها في المعنى، ثم أعلم [ ص: 397 ] تعالى برفع وجوه الرفق عنهم لأن العذاب إذا لم يخفف ولم يؤخر فهو النهاية.

و"ينظرون" معناه يؤخرون عن العذاب، ويحتمل أن يكون من النظر نحو قوله تعالى: ولا ينظر إليهم يوم القيامة والأول أظهر لأن النظر بالعين إنما يعدى بإلى إلا شاذا في الشعر.

وقوله تعالى: وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الآية إعلام بالوحدانية، وواحد في صفة الله تعالى معناه نفي المثيل والنظير والند. وقال أبو المعالي : هو نفي التبعيض والانقسام. وقال عطاء : لما نزلت هذه الآية بالمدينة قال كفار قريش بمكة : ما الدليل على هذا؟ وما آيته وعلامته؟ وقال سعيد بن المسيب : قالوا: إن كان هذا يا محمد ، فائتنا بآية من عنده تكون علامة الصدق، حتى قالوا: اجعل لنا الصفا ذهبا، فقيل لهم: ذلك لكم، ولكن إن كفرتم بعد ذلك عذبتم، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: دعني أدعهم يوما بيوم، فنزل عند ذلك قوله تعالى: إن في خلق السماوات والأرض الآية .

ومعنى في خلق السماوات : في اختراعها وإنشائها، وقيل: المعنى أن في خلقه أي: هيئة السموات والأرض. و ( اختلاف الليل والنهار ) معناه أن هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا، فهما خلفة كما قال تعالى:

وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة .

وكما قال زهير :


بها العين والأرآم يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

[ ص: 398 ] وقال الآخر:


ولها بالماطرون إذا     أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتبعت     سكنت من جلق بيعا


ويحتمل أيضا الاختلاف في هذه الآية أن يراد به اختلاف الأوصاف و"الليل" جمع ليلة، وتجمع ليالي، وزيدت فيها الياء كما زيدت في كراهية وفراهية.

والنهار يجمع نهر وأنهرة، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يقضي بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : إنما هو بياض النهار وسواد الليل ، وهذا هو مقتضى الفقه في الإيمان ونحوها، فأما على ظاهر اللغة وأخذه من السعة فهو من وقت الإسفار إذا اتسع وقت النهار كما قال:


ملكت بها كفي فأنهرت فتقها     يرى قائم من دونها ما وراءها


وقال الزجاج في كتاب الأنواء: أول النهار ذرور الشمس، قال: وزعم النضر بن شميل أن أول النهار ابتداء طلوع الشمس، ولا يعد ما قبل ذلك النهار.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الحكم.

و"الفلك" السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، وليست الحركات تلك بأعيانها، بل [ ص: 399 ] كأنه بنى الجمع بناء آخر، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم: فلكان، والفلك المفرد. مذكر، قال الله تعالى: في الفلك المشحون .

و ما ينفع الناس هي التجارات وسائر المآرب التي يركب لها البحر من غزو وحج. والنعمة بالفلك هي إذا انتفع بها، فلذلك خص ذكر الانتفاع، إذ قد تجري بما يضر.

وما أنزل الله من السماء من ماء يعني به الأمطار التي بها إنعاش العالم، وإخراج النبات والأرزاق.

"وبث" معناه: فرق وبسط، و"دابة" تجمع الحيوان كله، وقد أخرج بعض الناس الطير من الدواب، وقال الأعشى :


......................................     دبيب قطا البطحاء في كل منهل

وقال علقمة بن عبدة :


......................................     صواعقها لطيرهن دبيب

وتصريف الرياح إرسالها عقيما، ومقحة، وصرا، ونصرا، وهلاكا، ومنه إرسالها جنوبا وشمالا، وغير ذلك. و"الرياح": جمع ريح، وجاءت في القرآن: مجموعة مع الرحمة، مفردة مع العذاب، إلا في يونس في قوله: وجرين بهم بريح طيبة وهذا أغلب وقوعها في الكلام.

[ ص: 400 ] وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح يقول: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء، كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة متقطعة، فلذلك هي رياح، وهو معنى نشر. وأفردت مع الفلك، لأن ريح إجراء السفن إنما هي واحدة متصلة، ثم وصفت بالطيب، فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب، وهي لفظة من ذوات الواو، يقال: ريح وأرواح، ولا يقال: أرياح، وإنما قيل: رياح من جهة الكسرة وطلب تناسب الياء معها.

وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال ، فاستعمل الأرياح في شعره، ولحن في ذلك، وقال له أبو حاتم : إن الأرياح لا تجوز، فقال: أما تسمع قولهم رياح؟ فقال أبو حاتم : هذا خلاف ذلك، فقال: صدقت ورجع.

وأما القراء السبعة فاختلفوا، فقرأ نافع : "الرياح" في اثني عشر موضعا هنا، وفي الأعراف: يرسل الرياح ، وفي إبراهيم: ( اشتدت به الرياح ) ، وفي الحجر: الرياح لواقح ، وفي الكهف: تذروه الرياح ، وفي الفرقان: أرسل الرياح ، وفي النمل: ومن يرسل الرياح ، وفي الروم في موضعين، وفي فاطر، وفي الجاثية، وفي عسق: ( يسكن الرياح ) ، وقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر موضعين من هذه بالإفراد:

[ ص: 401 ] في إبراهيم، وفي حم عسق، وقرؤوا سائرها كقراءة نافع ، وقرأ ابن كثير بالجمع في خمسة مواضع: هنا، وفي الحجر، وفي الكهف، وفي الروم الحرف الأول، وفي الجاثية: وتصريف الرياح ، وباقي ما في القرآن بالإفراد.

وقرأ حمزة بالجمع في موضعين، في الفرقان، وفي الروم الحرف الأول، وأفرد سائر ما في القرآن، وقرأ الكسائي كحمزة ، وزاد عليه في الحجر، الرياح لواقح .

ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام.

"والسحاب": جمع سحابة، سمي بذلك لأنه ينسحب، كما قالوا: حبا لأنه يحبو، قاله أبو علي الفارسي . وتسخيره: بعثه من مكان إلى آخر.

فهذه آيات أن الصانع موجود، والدليل العقلي يقوم أن الصانع للعالم لا يمكن أن يكون إلا واحدا، لجواز اختلاف الاثنين فصاعدا.

التالي السابق


الخدمات العلمية