الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 603 ] 50- باب: ذكر ما ادعي عليهن النسخ من سورة الممتحنة

ذكر الآية الأولى والثانية: قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين الآية ، وقوله: إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين الآية ، زعم قوم أن هذا عام في جميع الكفار ، وأنه منسوخ بآية السيف .

أخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا ابن أيوب ، قال: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود ، قال: أبنا محمد بن عبيد ، قال: أبنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، قال: نسختها: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم .

وقال غيره: معنى الآيتين منسوخ بآية السيف ، قال أبو جعفر بن جرير الطبري : لا وجه لادعاء النسخ ، لأن بر المؤمنين للمحاربين سواء كانوا قرابة أو غير قرابة ، غير محرم إذا لم يكن في ذلك تقوية لهم على الحرب بكراع أو سلاح ، أو دلالة لهم على عورة [ ص: 604 ] أهل الإسلام ، ويدل على ذلك حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لما قدمت عليها أمها قتيلة بنت عبد العزى المدينة بهدايا ، فلم تقبل هداياها ولم تدخلها منزلها ، فسألت لها عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها .

ذكر الآية الثالثة والرابعة: قوله تعالى: إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الآية ، وقوله: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم الآية ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صالح مشركي مكة عام الحديبية ، على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ، ومن أتى أهل مكة من أصحابه فهو لهم ، وكتبوا بذلك [ ص: 605 ] الكتاب فجاءت امرأة بعد الفراغ من الكتاب ، وفي تلك المرأة ثلاثة أقوال: أحدها: أم كلثوم بنت عقبة .

والثاني: سبيعة بنت الحارث .

والثالث: أميمة بنت بشر فنزلت فامتحنوهن وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال: أحدها: الإقرار بالإسلام .

والثاني: الاستحلاف لهن: ما خرجن من بغض زوج ، ولا رغبة عن أرض ، ولا التماس دنيا ، وما خرجن إلا حبا لله ولرسوله .

والثالث: الشروط المذكورة في قوله: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك ، فإذا أقررن بذلك لم يردهن إليهن ، واختلف العلماء ، هل دخل رد النساء إليهم في عقد الهدنة لفظا أو عموما ؟ ، [ ص: 606 ] فقالت طائفة: قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة بلفظ صريح ، فنسخ الله تعالى ردهن من العقد وأبقاه في الرجال .

وقالت طائفة: لم يشرطه صريحا بل كان ظاهر العموم اشتمال العقد عليهن مع الرجال ، فبين الله عز وجل خروجهن عن عمومه ، وفرق بينهن وبين الرجال ، لأمرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج تحرمن عليهم .

والثاني: أنهن أرق قلوبا وأسرع تقلبا .

فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم ، وقال القاضي أبو يعلى : إنما لم يرد النساء عليهم لأن النسخ جائز بعد التمكن من الفعل ، وإن لم يقع الفعل فأما قوله: وآتوهم ، يعني أزواجهن الكفار ، ما أنفقوا ، يعني: المهر ، وهذا إذا تزوجها مسلم ، فإن لم يتزوجها أحد ، فليس لزوجها الكافر شيء ، والأجور: المهور ولا تمسكوا بعصم الكوافر .

وقد زعم بعضهم: أنه منسوخ بقوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب وليس هذا بشيء ، لأن المراد بالكوافر الوثنيات ، ثم لو [ ص: 607 ] قلنا إنها عامة كانت إباحة الكتابيات تخصيصا لها لا نسخا كما بينا في قوله: ولا تنكحوا المشركات وقوله: واسألوا ما أنفقتم أي: إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم ، وليسألوا يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم ، من تزوجهن ما أنفقوا وهو المهر ، والمعنى عليكم أن تغرموا لهم الصدقات كما يغرمون لكم وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي: أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا أي: أعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر .

[ ص: 608 ] " أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال: " كن إذا فررن من المشركين الذين بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، إلى أصحاب نبي الله ، فتزوجوهن ، بعثوا بصداقهن إلى أزواجهن من المشركين الذين بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فإذا فررن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفار ليس بينهم وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فتزوجوهن فأصاب المسلمون غنيمة ، أعطي زوجها من جميع الغنيمة ثم اقتسموا بعد ذلك ، ثم نسخ هذا الحكم ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده ، وأمر بقتال المشركين كافة قال أحمد : وأبنا أسود بن عامر ، قال: أبنا إسرائيل ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله: " واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ، قال: هؤلاء قوم كان بينهم وبين المسلمين صلح ، فإذا خرجت امرأة من المسلمين إليهم أعطوا زوجها ما أنفق، وإذا خرجت امرأة من المسركين إلى المسلمين أعطوا زوجها ما أنفق .

قال القاضي أبو يعلى : وهذه الأحكام من أداء [ ص: 609 ] المهر ، وأخذه من الكفار وتعويض الزوج من الغنيمة ، أو من صداق ، قد وجب رده على أهل الحرب منسوخة عند جماعة من أهل العلم ، وقد نص أحمد بن حنبل على هذا وكذلك ، قال مقاتل بن سليمان : كل هؤلاء الآيات نسختها آية السيف .

التالي السابق


الخدمات العلمية