الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

* وأما من سأل عمن اعتقد الإيمان بقلبه ولم يقر بلسانه، هل يصير مؤمنا؟

الجواب: أما مع القدرة على الإقرار باللسان، فإنه لا يكون مؤمنا لا باطنا ولا ظاهرا عند السلف والأئمة وعامة طوائف القبلة، إلا جهما ومن قال بقوله، كالصالحي وطائفة من المتأخرين كأبي الحسن وأتباعه، وبعض متأخر [ي أصحاب] أبي حنيفة: زعموا أن الإيمان مجرد تصديق القلب، وأن قول اللسان إنما يعتبر في أحكام الدنيا والآخرة، فيجوزون أن يكون الرجل مؤمنا بقلبه وهو يسب الأنبياء والقرآن، ويتكلم بالشرك والكفر من غير إكراه ولا تأويل. وهذا القول قد كفر قائله غير واحد من الأئمة، كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما.

وألزم المسلمون قائل هذا القول أن يكون إبليس مؤمنا، وفرعون [ ص: 60 ] مؤمنا، واليهود مؤمنين، وأبو طالب وأبو جهل وغيرهما ممن عرف أن محمدا حق مؤمنين. وأن يكون من قاتل الأنبياء مؤمنا، ومن ألقى المصاحف في الحشوش وأهانها غاية الإهانة مؤمنا، وأمثال هؤلاء ممن لا يشك مسلم في كفره.

فأجابوا بأنه كل من دل النص أو الإجماع على كفره، [علمنا] أنه كان في الباطن غير مقر بالصانع، وألزموا أن يكون إبليس وفرعون وقومه واليهود ومعاندو الفرق غير مقرين بالصانع.

قال لهم أئمة المسلمين وجمهورهم: هذه مكابرة ظاهرة وبهتان بين; فإن الله قد قال عن قوم فرعون: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم [النمل: 14]. وقال موسى لفرعون: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر [الإسراء: 102]، وقال تعالى عن اليهود: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [البقرة: 146]، وقال عن قوم من المشركين: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [الأنعام: 33]. [ ص: 61 ]

وإبليس لم يرسل إليه رسول فيكذبه، ولكن الله أمره فاستكبر وأبى وكان من الكافرين، فعلم أن الكفر قد يكون من غير تكذيب بل عن كبر وامتناع من قول الحق والعمل به، وعلم أنه قد يعلم الحق بقلبه من لا يقر به ولا يتبعه، ويكون كافرا.

ومتى استقر في القلب التصديق والمحبة والطاعة، فلا بد أن يظهر ذلك على البدن في اللسان والجوارح; فإنه ما أسر أحد سريرة خير أو شر إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وقال تعالى عن المنافقين: ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول [محمد: 30]، فإذا كان المنافق الذي يجتهد في كتمان نفاقه لا بد أن يظهر في لحن قوله، والمؤمن الذي يجتهد في كتمان إيمانه ـ كمؤمن آل فرعون، وامرأة فرعون ـ يظهر إيمانه على لسانه عند المخالفين الذين يخالفهم، فكيف يكون مؤمن قد حصل في قلبه الإيمان التام بالله تعالى ورسوله، ولا ينطق بذلك من غير مانع يمنعه من النطق؟ بل هذا مما يعلم بصريح العقل امتناعه، كما قد بسط ما يتعلق بهذه المسألة في غير هذا الموضع.

وأما الأخرس فليس من شرط إيمانه نطق لسانه، والخائف لا يجب [ ص: 62 ] عليه النطق عند من يخافه، بل لا بد من النطق فيما بينه وبين الله.

التالي السابق


الخدمات العلمية