الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 7 ] القول في تأويل قوله تعالى ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : الذين يربون .

و " الإرباء " الزيادة على الشيء ، يقال منه : " أربى فلان على فلان " إذا زاد عليه " يربي إرباء " والزيادة هي " الربا " " وربا الشيء " إذا زاد على ما كان عليه فعظم " فهو يربو ربوا " . وإنما قيل للرابية [ رابية ] ؛ لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها من قولهم : " ربا يربو " . ومن ذلك قيل : " فلان في رباوة قومه " يراد أنه في رفعة وشرف منهم . فأصل " الربا " الإنافة والزيادة ، ثم يقال : " أربى فلان " أي أناف [ ماله حين ] صيره زائدا . وإنما قيل للمربي : " مرب " ؛ لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حل دينه عليه . ولذلك قال - جل ثناؤه - : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ) . [ آل عمران : 131 ] . [ ص: 8 ]

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :

ذكر من قال ذلك :

6235 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في الربا الذي نهى الله عنه : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول : لك كذا وكذا وتؤخر عني ؟ فيؤخر عنه .

6236 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

6237 - حدثني بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : أن ربا أهل الجاهلية : يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى ، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء ، زاده وأخر عنه .

قال أبو جعفر : فقال - جل ثناؤه - : الذين يربون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا " لا يقومون " في الآخرة من قبورهم " إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " يعني بذلك : يتخبله الشيطان في الدنيا ، وهو الذي يخنقه فيصرعه " من المس " يعني : من الجنون .

وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

6238 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، [ ص: 9 ] عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله - عز وجل - : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " يوم القيامة في أكل الربا في الدنيا .

6239 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

6240 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم قال حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : ذلك حين يبعث من قبره .

6241 - حدثني المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم قال حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : " خذ سلاحك للحرب " وقرأ : " لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : ذلك حين يبعث من قبره .

6242 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " الآية . قال : يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونا يخنق .

6243 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : [ ص: 10 ] " الذين يأكلون الربا لا يقومون " الآية ، وتلك علامة أهل الربا يوم القيامة ، بعثوا وبهم خبل من الشيطان .

6244 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : هو التخبل الذي يتخبله الشيطان من الجنون .

6245 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من الشيطان . وهي في بعض القراءة : ( " لا يقومون يوم القيامة " ) .

6246 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك في قوله : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال : من مات وهو يأكل الربا بعث يوم القيامة متخبطا ، كالذي يتخبطه الشيطان من المس .

6247 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " يعني : من الجنون .

6248 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " . قال : هذا مثلهم يوم القيامة ، لا يقومون يوم القيامة مع الناس إلا كما يقوم الذي يخنق من الناس ، كأنه خنق ، كأنه مجنون . [ ص: 11 ]

قال أبو جعفر : ومعنى قوله : " يتخبطه الشيطان من المس " يتخبله من مسه إياه . يقال منه : " قد مس الرجل وألق ، فهو ممسوس ومألوق " كل ذلك إذا ألم به اللمم فجن . ومنه قول الله - عز وجل - : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ) [ الأعراف : 201 ] ومنه قول الأعشى :


وتصبح عن غب السرى وكأنما ألم بها من طائف الجن أولق



فإن قال لنا قائل : أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الربا في تجارته ولم يأكله ، أيستحق هذا الوعيد من الله ؟

قيل : نعم ، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكل ، إلا أن الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت كانت طعمتهم ومأكلهم من الربا ، فذكرهم بصفتهم معظما بذلك عليهم أمر الربا ، ومقبحا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم ، وفي قوله - جل ثناؤه - : [ ص: 12 ] ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) [ سورة البقرة : 278 - 279 ] الآية ، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك ، وأن التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الربا ، وأن سواء العمل به وأكله وأخذه وإعطاؤه ، كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله :

6249 - " لعن الله آكل الربا ، ومؤكله ، وكاتبه ، وشاهديه إذا علموا به " .

التالي السابق


الخدمات العلمية