الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : كلا ردع وزجر : أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ، ثم استأنف ، فقال : إذا بلغت التراقي أي بلغت النفس أو الروح التراقي ، وهي جمع ترقوة ، وهي عظم بين ثغرة النحر والعاتق ، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت . ومثله قوله : فلولا إذا بلغت الحلقوم [ الواقعة : 83 ] وقيل معنى كلا حقا : أي حقا أن المساق إلى الله إذا بلغت التراقي ، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت .

                                                                                                                                                                                                                                      قال دريد بن الصمة :


                                                                                                                                                                                                                                      ورب كريهة دافعت عنها وقد بلغت نفوسهم التراقي

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل من راق أي قال من حضر صاحبها : من يرقيه ويشتفي برقيته ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة : التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا ، وبه قال أبو قلابة ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      هل للفتى من بنات الموت من واقي     أم هل له من حمام الموت من راقي

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو الجوزاء : هو من رقى يرقى إذا صعد ، والمعنى : [ ص: 1561 ] من يرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ وقيل إنه يقول ذلك ملك الموت ، وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها .

                                                                                                                                                                                                                                      وظن أنه الفراق أي وأيقن الذي بلغت روحه التراقي أنه الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد .

                                                                                                                                                                                                                                      والتفت الساق بالساق أي التفت ساقه بساقه عند نزول الموت به .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال جمهور المفسرين : المعنى تتابعت عليه الشدائد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن : هما ساقاه إذا التفتا في الكفن .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال زيد بن أسلم : التفت ساق الكفن بساق الميت ، وقيل ماتت رجلاه ويبست ساقاه ولم تحملاه ، وقد كان جوالا عليهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الضحاك : اجتمع عليه أمران شديدان : الناس يجهزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه .

                                                                                                                                                                                                                                      وبه قال ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد الكبار ، والمحن العظام ، ومنه قولهم : قامت الحرب على ساق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : الساق الأول تعذيب روحه عند خروج نفسه ، والساق الآخر شدة البعث وما بعده .

                                                                                                                                                                                                                                      إلى ربك يومئذ المساق أي إلى خالقك يوم القيامة المرجع ، وذلك جمع العباد إلى الله يساقون إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      فلا صدق ولا صلى أي لم يصدق بالرسالة ولا بالقرآن ، ولا صلى لربه ، والضمير يرجع إلى الإنسان المذكور في أول هذه السورة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة : فلا صدق بكتاب الله ولا صلى لله ، وقيل فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الكسائي لا بمعنى لم ، وكذا قال الأخفش : والعرب تقول : لا ذهب أي لم يذهب ، وهذا مستفيض في كلام العرب ، ومنه :


                                                                                                                                                                                                                                      إن تغفر اللهم تغفر جما     وأي عبد لك إلا ألما

                                                                                                                                                                                                                                      . ولكن كذب وتولى أي كذب بالرسول وبما جاء به ، وتولى عن الطاعة والإيمان .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ذهب إلى أهله يتمطى أي يتبختر ويختال في مشيته افتخارا بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل هو مأخوذ من المطي وهو الظهر ، والمعنى يلوي مطاه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل أصله يتمطط ، وهو التمدد والتثاقل : أي يتثاقل ويتكاسل عن الداعي إلى الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى أي وليك الويل ، وأصله أولاك الله ما تكرهه ، واللام مزيدة كما في ردف لكم وهذا تهديد شديد والتكرير للتأكيد : أي تكرر عليك ذلك مرة بعد مرة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الواحدي : قال المفسرون : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أبي جهل ، ثم قال : أولى لك فأولى فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا ، وإني لأعز أهل هذا الوادي ، فنزلت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل معناه : الويل لك ، ومنه قول الخنساء :


                                                                                                                                                                                                                                      هممت بنفسي بعض الهمو     م فأولى لنفسي أولى لها

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى القول بأنه الويل ، قيل هو من المقلوب كأنه قيل : أويل لك ، ثم أخر الحرف المعتل .

                                                                                                                                                                                                                                      قيل ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات ؛ والويل لك حيا ، والويل لك ميتا ، والويل لك يوم البعث ، والويل لك يوم تدخل النار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل المعنى : إن الذم لك أولى لك من تركه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل المعنى : أنت أولى وأجدر بهذا العذاب قاله ثعلب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأصمعي : أولى في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المبرد : كأنه يقول : قد وليت الهلاك وقد دانيته ، وأصله من الولي ، وهو القرب وأنشد الفراء :


                                                                                                                                                                                                                                      فأولى أن يكون لك الولاء

                                                                                                                                                                                                                                      أي قارب أن يكون لك ، وأنشد أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                      أولى لمن هاجت له أن يكمدا

                                                                                                                                                                                                                                      أيحسب الإنسان أن يترك سدى أي هملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يحاسب ولا يعاقب ، وقال السدي : معناه المهمل ، ومنه إبل سدى : أي ترعى بلا راع ، وقيل المعنى : أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث .

                                                                                                                                                                                                                                      وجملة ألم يك نطفة من مني يمنى مستأنفة : أي ألم يك ذلك الإنسان قطرة من مني يراق في الرحم ، وسمي المني منيا لإراقته ، والنطفة : الماء القليل ، يقال نطف الماء : إذا قطر .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور ألم يك بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الإنسان .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن بالفوقية على الالتفات إليه توبيخا له .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور أيضا " تمنى " بالفوقية على أن الضمير للنطفة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ حفص ، وابن محيصن ، ومجاهد ، ويعقوب بالتحتية على أن الضمير للمني ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو ، واختارها أبو حاتم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم كان علقة أي كان بعد النطفة علقة : أي دما . فخلق أي فقدر بأن جعلها مضغة مخلقة . فسوى أي فعدله وكمل نشأته ونفخ فيه الروح .

                                                                                                                                                                                                                                      فجعل منه أي حصل من الإنسان ، وقيل من المني الزوجين أي الصنفين من نوع الإنسان .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين ذلك فقال : الذكر والأنثى أي الرجل والمرأة .

                                                                                                                                                                                                                                      أليس ذلك أي ليس ذلك الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه بقادر على أن يحيي الموتى أي يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا ، فإن الإعادة أهون من الابتداء ، وأيسر مؤنة منه .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور بقادر وقرأ زيد بن علي " يقدر " فعلا مضارعا ، وقرأ الجمهور يحيي بنصبه بأن .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ طلحة بن سليمان ، والفياض بن غزوان بسكونها تخفيفا ، أو على إجراء الوصل مجرى الوقف كما مر في مواضع .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : وقيل من راق قال : تنتزع نفسه حتى إذا كانت في تراقيه ، قيل من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب والتفت الساق بالساق قال : التفت عليه الدنيا والآخرة وملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيهم يرقى به .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عنه وقيل من راق قل من راق يرقي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضا والتفت الساق بالساق يقول : آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة ، فتلقى الشدة بالشدة إلا من رحم الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا يتمطى قال : يختال .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله : أولى لك فأولى أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل من قبل نفسه ، أم أمره الله به ؟ قال : بل قاله من قبل نفسه ثم أنزله الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر [ ص: 1562 ] وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن يترك سدى قال : هملا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن الأنباري عن صالح أبي الخليل قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى قال : سبحانك اللهم وبلى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال : لما نزلت هذه الآية أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحانك ربي وبلى

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن النجار في تاريخه عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند قراءته لهذه الآية : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين . ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى قوله : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فليقل بلى ، ومن قرأ والمرسلات عرفا فبلغ فبأي حديث بعده يؤمنون فليقل آمنا بالله وفي إسناده رجل مجهول .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قرأت لا أقسم بيوم القيامة فبلغت أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فقل بلى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية