الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الحادية والأربعون : قوله تعالى : { وأرجلكم } : ثبتت القراءة فيها بثلاث روايات :

                                                                                                                                                                                                              الرفع ، قرأ به نافع ، رواه عنه الوليد بن مسلم ، وهي قراءة الأعمش والحسن .

                                                                                                                                                                                                              والنصب ، روى أبو عبد الرحمن السلمي قال : قرأ علي [ ص: 71 ] الحسن أو الحسين فقرأ قوله : { وأرجلكم } فسمع علي ذلك ، وكان يقضي بين الناس ، فقال : وأرجلكم بالنصب ، هذا من مقدم الكلام ومؤخره . وقرأ ابن عباس مثله . وقرأ أنس وعلقمة وأبو جعفر بالخفض . وقال موسى بن أنس لأنس : يا أبا حمزة ، إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه ، فذكر الطهور ، فقال : اغسلوا حتى ذكر الرجلين وغسلهما وغسل العراقيب والعراقب ، فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج . قال الله سبحانه : { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم } قال : فكان أنس إذا مسح قدميه بلهما وقال : نزل القرآن بالمسح ، وجاءت السنة بالغسل . وعن ابن عباس وقتادة افترض الله مسحين وغسلين ، وبه قال عكرمة والشعبي . وقال : ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم ، وما كان عليه المسح أسقط . واختار الطبري التخيير بين الغسل والمسح ، وجعل القراءتين كالروايتين في الخبر يعمل بهما إذا لم يتناقضا .

                                                                                                                                                                                                              وجملة القول في ذلك أن الله سبحانه عطف الرجلين على الرأس ، فقد ينصب على خلاف إعراب الرأس أو يخفض مثله ; والقرآن نزل بلغة العرب ، وأصحابه رءوسهم وعلماؤهم لغة وشرعا .

                                                                                                                                                                                                              وقد اختلفوا في ذلك ; فدل على أن المسألة محتملة لغة محتملة شرعا ، لكن تعضد حالة النصب على حالة الخفض بأن النبي صلى الله عليه وسلم غسل وما مسح قط ، وبأنه رأى قوما تلوح أعقابهم ، فقال { : ويل للأعقاب من النار } ، { و ويل [ ص: 72 ] للعراقيب من النار } . فتوعد بالنار على ترك إيعاب غسل الرجلين ; فدل ذلك على الوجوب بلا خلاف ، وتبين أن من قال إن الرجلين ممسوحتان لم يعلم بوعيد النبي صلى الله عليه وسلم على ترك إيعابهما .

                                                                                                                                                                                                              وطريق النظر البديع أن القراءتين محتملتان ، وأن اللغة تقضي بأنهما جائزتان ، فردهما الصحابة إلى الرأس مسحا ، فلما قطع بنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ووقف في وجوهنا وعيده ، قلنا : جاءت السنة قاضية بأن النصب يوجب العطف على الوجه واليدين ، ودخل بينهما مسح الرأس ، وإن لم تكن وظيفته كوظيفتهما ; لأنه مفعول قبل الرجلين لا بعدهما ، فذكر لبيان الترتيب لا ليشتركا في صفة التطهير ، وجاء الخفض ليبين أن الرجلين يمسحان حال الاختيار على حائل ، وهما الخفان بخلاف سائر الأعضاء ، فعطف بالنصب مغسولا على مغسول ، وعطف بالخفض ممسوحا على ممسوح ، وصح المعنى فيه .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : أنتم وإن قرأتموها بالنصب فهي عطف على الرءوس موضعا ، فإن الرءوس وإن كانت مجرورة لفظا فهي منصوبة معنى ; لأنها مفعولة ، فكيف قرأتها خفضا أو نصبا فوظيفتها المسح مثل الذي عطف عليه . قلنا : يعارضه أنا وإن قرأناها خفضا ، وظهر أنها معطوفة على الرءوس فقد يعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما ، كقوله : [ ص: 73 ]

                                                                                                                                                                                                              علفتها تبنا وماء باردا ورأيت زوجك في الوغى     متقلدا سيفا ورمحا
                                                                                                                                                                                                              فعلا فروع الأيهقان وأطفلت     بالجلهتين ظباؤها ونعامها

                                                                                                                                                                                                              وكقوله :

                                                                                                                                                                                                              شراب ألبان وتمر وأقط

                                                                                                                                                                                                              تقديره : علفتها تبنا وسقيتها ماء . ومتقلدا سيفا وحاملا رمحا ، وأطفلت بالجلهتين ظباؤها وفرخت نعامها . وشراب ألبان وآكل تمر وأقط . فإن قيل : هاهنا عطف وشرك في الفعل وإن لم يكن به مفعولا اتكالا على فهم السامع للحقيقة . قلنا : وها هنا عطف الرجلين على الرءوس وشركهما في فعلهما ، وإن لم يكن به مفعوله ، تعويلا على بيان المبلغ ، فقد بلغ ، وقد بينا أيضا أنها تكون ممسوحة تحت الخفين ; وذلك ظاهر في البيان ; وقد أفردناها مستقلة في جزء .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية