الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 369 ] وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون .

وهذا كتاب عطف على جملة قل الله ، أي وقل لهم الله أنزل الكتاب على موسى وهذا كتاب أنزلناه .

والإشارة إلى القرآن لأن المحاولة في شأنه من ادعائهم نفي نزوله من عند الله ، ومن تبكيتهم بإنزال التوراة ، يجعل القرآن كالحاضر المشاهد ، فأتى باسم الإشارة لزيادة تمييزه تقوية لحضوره في الأذهان .

وافتتاح الكلام باسم الإشارة المفيد تمييز الكتاب أكمل تمييز ، وبناء فعل أنزلنا على خبر اسم الإشارة ، وهو كتاب الذي هو عينه في المعنى ، لإفادة التقوية ، كأنه قيل : وهذا أنزلناه .

وجعل كتاب الذي حقه أن يكون مفعول أنزلنا مسندا إليه ، ونصب فعل " أنزلنا " لضميره ، لإفادة تحقيق إنزاله بالتعبير عنه مرتين ، وذلك كله للتنويه بشأن هذا الكتاب .

وجملة أنزلناه يجوز أن تكون حالا من اسم الإشارة ، أو معترضة بينه وبين خبره . و مبارك خبر ثان . والمبارك اسم مفعول من باركه ، وبارك عليه ، وبارك فيه ، وبارك له ، إذا جعل له البركة . والبركة كثرة الخير ونماؤه يقال : باركه . قال تعالى أن بورك من في النار ومن حولها ، ويقال : بارك فيه ، قال تعالى وبارك فيها .

ولعل قولهم ( بارك فيه ) إنما يتعلق به ما كانت البركة حاصلة للغير في زمنه أو مكانه ، وأما ( باركه ) فيتعلق به ما كانت البركة صفة له ، و ( بارك [ ص: 370 ] عليه ) جعل البركة متمكنة منه ، ( وبارك له ) جعل أشياء مباركة لأجله ، أي بارك فيما له .

والقرآن مبارك لأنه يدل على الخير العظيم ، فالبركة كائنة به ، فكأن البركة جعلت في ألفاظه ، ولأن الله تعالى قد أودع فيه بركة لقارئه المشتغل به بركة في الدنيا وفي الآخرة ، ولأنه مشتمل على ما في العمل به كمال النفس وطهارتها بالمعارف النظرية ثم العملية . فكانت البركة ملازمة لقراءته وفهمه . قال فخر الدين قد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه ( أي عن هذا الكتاب ) المتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة . وأنا قد نقلت أنواعا من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدنيا مثل ما حصل لي بسبب خدمة هذا العلم ( يعني التفسير ) .

و مصدق خبر عن كتاب بدون عطف .

والمصدق تقدم عند قوله تعالى مصدقا لما بين يديه في سورة البقرة ، وقوله ومصدقا لما بين يدي في سورة آل عمران . و الذي من قوله الذي بين يديه اسم موصول مراد به معنى جمع . وإذ قد كان جمع الذي وهو الذين لا يستعمل في كلام العرب إلا إذا أريد به العاقل وشبهه ، نحو إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم لتنزيل الأصنام منزلة العاقل في استعمال الكلام عرفا . فلا يستعمل في جمع غير العاقل إلا الذي المفرد ، نحو قوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون .

والمراد بـ الذي بين يديه ما تقدمه من كتب الأنبياء ، وأخصها التوراة والإنجيل والزبور ، لأنها آخر ما تداوله الناس من الكتب المنزلة على الأنبياء ، وهو مصدق الكتب النازلة قبل هذه الثلاثة وهي صحف إبراهيم وموسى .

ومعنى كون القرآن مصدقها من وجهين ؛ أحدهما أن في هذه الكتب الوعد [ ص: 371 ] بمجيء الرسول المقفى على نبوءة أصحاب تلك الكتب ، فمجيء القرآن قد أظهر صدق ما وعدت به تلك الكتب ودل على أنها من عند الله .

وثانيهما أن القرآن مصدق أنبيائها وصدقها وذكر نورها وهداها ، وجاء بما جاءت به من أصول الدين والشريعة . ثم إن ما جاء به من الأحكام التي لم تكن ثابتة فيها لا يخالفها . وأما ما جاء به من الأحكام المخالفة للأحكام المذكورة فيها من فروع الشريعة فذلك قد يبين فيه أنه لأجل اختلاف المصالح ، أو لأن الله أراد التيسير بهذه الأمة .

ومعنى بين يديه ما سبقه . وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه في سورة البقرة ، وعند قوله ومصدقا لما بين يدي من التوراة في سورة آل عمران .

وأما جملة ولتنذر أم القرى فوجود واو العطف في أولها مانع من تعليق لتنذر بفعل أنزلناه ، ومن جعل المجرور خبرا عن كتاب خلافا للتفتزاني ، إذ الخبر إذا كان مجرورا لا يقترن بواو العطف ، ولا نظير لذاك في الاستعمال ، فوجود لام التعليل مع الواو مانع من جعلها خبرا آخر لـ كتاب ، فلا محيص عند توجيه انتظامها مع ما قبلها من تقدير محذوف أو تأويل بعض ألفاظها ، والوجه عندي أنه معطوف على مقدر ينبئ عنه السياق . والتقدير : ليؤمن أهل الكتاب بتصديقه ولتنذر المشركين . ومثل هذا التقدير يطرد في نظائر هذه الآية بحسب ما يناسب أن يقدر . وهذا من أفانين الاستعمال الفصيح . ونظيره قوله تعالى هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب في سورة إبراهيم .

ووقع في الكشاف أن ولتنذر معطوف على ما دلت عليه صفة الكتاب ، كأنه قيل : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه والإنذار ا هـ . وهذا وإن استتب في هذه الآية فهو لا يحسن في آية سورة إبراهيم ، لأن لفظ بلاغ اسم ليس [ ص: 372 ] فيه ما يشعر بالتعليل ، و للناس متعلق به ، واللام فيه للتبليغ لا للتعليل ، فتعين تقدير شيء بعده نحو : لينتبهوا أو لئلا يؤخذوا على غفلة ولينذروا به .

والإنذار : الإخبار بما فيه توقع ضر ، وضده البشارة . وقد تقدم عند قوله تعالى إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا في سورة البقرة . واقتصر عليه لأن المقصود تخويف المشركين إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء .

وأم القرى : مكة ، وأم الشيء استعارة شائعة في الأمر الذي يرجع إليه ويلتف حوله ، وحقيقة الأم الأنثى التي تلد الطفل فيرجع الولد إليها ويلازمها ، وشاعت استعارة الأم للأصل والمرجع حتى صارت حقيقة ، ومنه سميت الراية أما ، وسمي أعلى الرأس أم الرأس ، والفاتحة أم القرآن . وقد تقدم ذلك في تسمية الفاتحة . وإنما سميت مكة أم القرى لأنها أقدم القرى وأشهرها وما تقرت القرى في بلاد العرب إلا بعدها ، فسماها العرب أم القرى ، وكان عرب الحجاز قبلها سكان خيام .

وإنذار أم القرى بإنذار أهلها ، وهذا من مجاز الحذف كقوله تعالى واسأل القرية ، وقد دل عليه قوله ومن حولها ، أي القبائل القاطنة حول مكة مثل خزاعة ، وسعد بن بكر ، وهوازن ، وثقيف ، وكنانة .

ووجه الاقتصار على أهل مكة ومن حولها في هذه الآية أنهم الذين جرى الكلام والجدال معهم من قوله وكذب به قومك وهو الحق ، إذ السورة مكية وليس في التعليل ما يقتضي حصر الإنذار بالقرآن فيهم حتى نتكلف الادعاء أن من حولها مراد به جميع أهل الأرض .

وقرأ الجمهور ولتنذر أم القرى بالخطاب ، وقرأه أبو بكر وحده عن عاصم ( ولينذر ) بياء الغائب على أن يكون الضمير عائدا إلى ( كتاب ) .

وقوله والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به احتراس من شمول الإنذار المؤمنين الذين هم يومئذ بمكة وحولها ، المعروفون بهذه الصلة دون غيرهم من [ ص: 373 ] أهل مكة ، ولذلك عبر عنهم بهذا الموصول لكونه كاللقب لهم ، وهو مميزهم عن أهل الشرك لأن أهل الشرك أنكروا الآخرة .

وليس في هذا الموصول إيذان بالتعليل ، فإن اليهود والنصارى يؤمنون بالآخرة ولم يؤمنوا بالقرآن ولكنهم لم يكونوا من أهل مكة يومئذ .

وأخبر عن المؤمنين بأنهم يؤمنون بالقرآن تعريضا بأنهم غير مقصودين بالإنذار ، فيعلم أنهم أحقاء بضده وهو البشارة .

وزادهم ثناء بقوله وهم على صلاتهم يحافظون إيذانا بكمال إيمانهم وصدقه ، إذ كانت الصلاة هي العمل المختص بالمسلمين ، فإن الحج كان يفعله المسلمون والمشركون ، وهذا كقوله هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ولم يكن الحج مشروعا للمسلمين في مدة نزول هذه السورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية