الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 150 ] باب الاستطابة

                                                                                                                                            قال الشافعي : أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن محمد بن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما أنا لكم مثل الوالد فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا ببول وليستنج بثلاثة أحجار ونهى عن الروث والرمة " ، قال الشافعي وذلك في الصحاري لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جلس على لبنتين مستقبل بيت المقدس فدل على أن البناء مخالف للصحاري .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن هذا الباب إنما سمي باب الاستطابة ، لأن المستنجي يطيب به نفسه .

                                                                                                                                            قال أهل اللغة : استطاب وأطاب إذا استنجى ومنه قول الأعشى :


                                                                                                                                            يا رخما قاظ على مطلوب يعجل كف الخارئ المطيب

                                                                                                                                            يعني المستنجي وسمي استنجاء ، لأنهم كانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة استتروا بنجوة من الأرض وهو الموضع المرتفع منها ، وقيل في تأويل قوله تعالى : فاليوم ننجيك ببدنك [ يونس : 92 ] أي : نلقيك على نجوة من الأرض .

                                                                                                                                            وأما الغائط فهو المكان المستقل بين عاليين فكنى به عن الخارج لأنه يقصد له .

                                                                                                                                            [ ص: 151 ] قال الشاعر :


                                                                                                                                            أما أتاك عن الحديث     إذ أنا بالغائط أستغيث
                                                                                                                                            وصحت في الغائط يا خبيث

                                                                                                                                            وعقد هذا الباب ومداره على حديث أبي هريرة المقدم ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما أنا لكم مثل الوالد " يقصد بذلك والله أعلم ثلاثة أشياء :

                                                                                                                                            أحدها : أنه جعلها مقدمة يأنس بها السامع لأن في الابتداء بذكر الغائط والبول وحشة على السامع .

                                                                                                                                            والثاني : أنه حثهم على سؤاله فيما احتشم ذكره من أمر دينهم وأدبهم كما يسأل والده فيما احتشم غيره من سؤاله .

                                                                                                                                            والثالث : التنبيه على أن الوالد يلزمه تعليم ولده ما احتاج إليه من دينه وأدبه مع ما فيه من التنبيه على القياس ، ثم أخذ في بيان الأدب الشرعي فقال : " فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لغائط ولا لبول " ، فاختلف الناس في استقبال القبلة واستدبارها للغائط والبول على أربعة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : أنه لا يجوز استقبالها ولا استدبارها لا في البنيان ولا في الصحاري وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه ، والثوري ، والنخعي ، وأحمد ، وأبي ثور وبه قال من الصحابة أبو أيوب الأنصاري .

                                                                                                                                            والثاني : يجوز استقبالها واستدبارها في البنيان والصحاري وهو مذهب داود وبه قال عروة بن الزبير وربيعة بن أبي عبد الرحمن .

                                                                                                                                            والثالث : أنه لا يجوز استقبالها ولا استدبارها في الصحاري ويجوز استقبالها واستدبارها في البنيان وهو مذهب الشافعي وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر ، ومن التابعين الشعبي ، ومن الفقهاء مالك ، وإسحاق . [ ص: 152 ] والرابع : ما رواه محمد بن الحسن مذهبا ثانيا أنه أجاز استدبارها في الموضعين ، ومنع من استقبالها في الموضعين غير أن المذهب الأول هو الذي يعول عليه أصحابه .

                                                                                                                                            واستدل من منع من استقبالها واستدبارها في الموضعين بحديثين :

                                                                                                                                            أحدهما : حديث أبي هريرة المقدم ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فإذا ذهب أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لغائط ولا بول " ، فكان على عمومه .

                                                                                                                                            والثاني : ما رواه عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن نستقبل القبلة لغائط أو بول ولكن شرقوا أو غربوا ، قال فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله تعالى .

                                                                                                                                            وأما المعنى فهو إن قالوا : كل حكم تعلق فيه القبلة استوى فيه البنيان والصحاري كالصلاة ، قالوا ولأنه مستقبل بفرجه إلى القبلة فوجب أن يكون ممنوعا منه كالصحاري قالوا ولأنه إنما منع من استقبال القبلة في الصحراء تعظيما لحرمتها وهذا المعنى موجود في البنيان كوجوده في الصحاري فوجب أن يستوي المنع فيهما .

                                                                                                                                            قالوا : ولأنه ليس في البنيان أكثر من أنها حائل ، والحائل عن القبلة لا يمنع حكما تعلق بها ، دليله الجبال في الصحاري لذي الحاجة ، والبنيان للصلاة .

                                                                                                                                            واستدل من أباح ذلك في الموضعين بحديثين :

                                                                                                                                            أحدهما : رواه مجاهد عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استقبال القبلة واستدبارها ، ثم إني رأيته قبل موته بسنة وقد قعد مستقبل القبلة لقضاء حاجته .

                                                                                                                                            والثاني : ما رواه واسع بن حيان عن ابن عمر أنه قال : إن ناسا يقولون : إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبل بيت المقدس . [ ص: 153 ] وأما المعنى : فهو أن كشف العورة إذا كان مباحا إلى غير القبلة كان مباحا إلى القبلة قياسا على كشفها للمباشرة ، ولأن كل جهة لا يحرم كشف العورة إليها في المباشرة لم يحرم كشف العورة إليها عند الحاجة قياسا على غير القبلة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية