الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون )

                          كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - يرون أن أولى الناس بالإيمان وأقربهم منه اليهود ؛ لأنهم موحدون ومصدقون بالوحي والبعث في الجملة ؛ ولذلك كانوا يطمعون بدخولهم في الإسلام أفواجا ؛ لأنه مصدق لما معهم في الجملة ، ومجل لجميع شبهات الدين ، وحال لجميع إشكالاته بالتفصيل ، وواضع له على قواعد لا ترهق الناس عسرا ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) ( 7 : 157 ) .

                          كان هذا الطمع في إيمانهم مبنيا على وجه نظري معقول ، لولا أنهم اكتفوا بجعل الدين [ ص: 294 ] رابطة جنسية ، ولم يجعلوه هداية روحية ؛ ولذلك كانوا يتصرفون فيه باختلاف المذاهب والآراء ، ويحرفون كلمه عن مواضعها بحسب الأهواء ، وما أعذر الله المؤمنين في طمعهم هذا إلا بعد ما قص عليهم من نبأ بني إسرائيل ، الذين كانوا على عهد التشريع ، وشاهدوا من الآيات ما علم به أنهم في المجاحدة والمعاندة على عرق راسخ ونحيزة موروثة لا يكفي في زلزالها كون القرآن مبينا في نفسه لا يتطرق إليه ريب ، ولا يتسرب إليه شك ؛ ولذلك بدأ السورة بوصف الكتاب بهذا وكونه هدى للمتقين من أهل الكتاب وغيرهم ، وثنى ببيان أن من الناس من يعانده ويباهته ، ومنهم المذبذب الذي يميل مع الريحين فلا يثبت مع أحد الفريقين ، ثم أفاض في شرح حال بني إسرائيل الذين لم يؤمن منهم إلا قليل من أهل العلم والتقوى ، وكان الأكثرون أشد الناس استكبارا عن الإيمان وإيذاء للرسول ولمن اتبعه من المؤمنين . وبعد هذا كله أنكر على المؤمنين ذلك الطمع بدخول اليهود في دين الله أفواجا ، ووصل الإنكار بحجة واقعة ناهضة ، تجعل تلك الحجة النظرية داحضة ، فعلم بهذا أن الكلام لا يزال متصلا في موضوع الكتاب وأصناف الناس بالنسبة إلى الإيمان به وعدم الإيمان ، كلما بعد العهد جاء ما يذكر به تذكيرا .

                          قال - تعالى - : ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) كان الظاهر أن يكون الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، ولكن خاطب المؤمنين معه ؛ لأنهم كانوا يشاركونه في الألم من إيذائهم والطمع بهدايتهم فأشركهم بالتسلية كما سبق ؛ ولأن طمع المؤمنين بإيمانهم كان يحملهم على الانبساط معهم في المعاشرة إلى حد الإفضاء إليهم ببعض الشئون الملية المحضة واتخاذهم بطانة ، وكان يعقب ذلك من الضرر ما يعقب حتى نهاهم الله - تعالى - عن اتخاذ البطانة من دون المؤمنين إذا كانوا موصوفين بأوصاف هؤلاء ، وذلك قوله - تعالى - : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) ( 3 : 118 ) والآية التالية تدل على هذا الإفضاء أيضا .

                          أما الحجة التي وصلها بإنكار الطمع بإيمانهم للدلالة على أنه طمع في غير مطمع ؛ فهي تعمد تحريف كلام الله ممن سمعه منهم . وذلك أن موسى اختار بأمر الله سبعين رجلا من قومه لسماع الوحي ومشاهدة الحال التي يكلمه الله - تعالى - بها ، وقد سمعوا كلام الله - تعالى - [ ص: 295 ] على الوجه الذي لا نعرفه ، وإنما نعرف أنهم صحبوه إلى حيث كان يناجي الله - تعالى - ، وكان من شأن الله - تعالى - معهم أن صدقوا بأن ما جاء به موسى - عليه السلام - هو وحي من الله - تعالى - ، والتصديق بذلك لا يتوقف على معرفة كيفيته وكنهه ، فإن أكثر ما نصدق به تصديق يقين لا نعرف حقيقته وكنهه ولا كيفية تكوينه وإيجاده . وقد كان من أولئك المختارين أنهم لما رجعوا إلى قومهم ، حرفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وأذعنوا له ، بأن صرفوه عن وجهه بالتأويل - كما حققه ابن جرير الطبري وغيره - وهذا التحريف ثابت عندهم ، منصوص في التوراة والتاريخ الديني الذي يسمى التاريخ المقدس .

                          فدل هذا ما سبقه على أن القسوة المانعة من التأثر والتدبر ومكابرة الحق والتفصي من عقال الشريعة ، كان شنشنة قديمة فيهم ، ثم تأصل فصار غريزة مطبوعة ، فإعراضهم عن القرآن لا يستلزم الطعن عليه ، ولا القول بجواز تسلق شيء من الريب إليه ، فإنهم قد حرفوا وبدلوا وعاندوا وجاحدوا وهم يشاهدون الآيات الحسية ، ويؤخذون بالعقوبات المعاشية ، فكيف يستنكر بعد هذا أن يعرضوا عن دين دلائله عقلية ، وآيته الكبرى معنوية ! وهي القرآن المعجز بما فيه من علوم الهداية ، ودقائق البلاغة ، وأنباء الغيب ، على أنه من أمي عاش أربعين سنة لم يؤثر عنه فيها شيء من العلم ، ولم يزاحم فحول البلاغة في نثر ولا نظم ، وفهم تلك الدلائل إنما يكون من ذوي العقول الحرة والقلوب السليمة ، الذين لطف شعورهم ورق وجدانهم ، وصحت أذواقهم .

                          قال ابن جرير : لو كان المراد بما هنا تحريف كلام التوراة المكتوب لما قال : ( يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ) ، فزيادة ( يسمعون ) هنا لا بد لها من حكمة ، ولولا ذلك لجاء الكلام على نسق الآيات الأخرى التي ذكر فيها التحريف ، كأن يقول : وقد كان فريق منهم يحرف كلام الله . وقوله - تعالى - : ( من بعد ما عقلوه ) نص في التعمد وسوء القصد ، وإبطال لما عساه يعتذر لهم به من سوء الفهم . ثم قال : ( وهم يعلمون ) أي كانوا يفعلون فعلتهم الشنعاء في حال العلم بالصواب واستحضاره ، لا أنهم كانوا على نسيان أو ذهول ، وفي هذين القيدين من النعي والتشنيع عليهم ما لا مزيد عليه ، وكيف وقد بطل بهما عذر الخطأ والنسيان وسجل عليهم تعمد الفسوق والعصيان !

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية