nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94nindex.php?page=treesubj&link=28977_30337_30351ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون .
إن كان القول المقدر في جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=93أخرجوا أنفسكم قولا من قبل الله تعالى كان قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94ولقد جئتمونا فرادى عطفا على جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=93أخرجوا أنفسكم ، أي يقال لهم حين دفعهم الملائكة إلى العذاب : أخرجوا أنفسكم ، ويقال لهم : لقد جئتمونا فرادى . فالجملة في محل النصب بالقول المحذوف . وعلى احتمال أن يكون
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=93غمرات الموت حقيقة ، أي في حين النزع يكون فعل جئتمونا من التعبير بالماضي عن المستقبل القريب ، مثل : قد قامت الصلاة ، فإنهم حينئذ قاربوا أن يرجعوا إلى محض تصرف الله فيهم .
وإن كان القول المقدر قول الملائكة فجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94ولقد جئتمونا فرادى عطف على جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=93ولو ترى إذ الظالمون فانتقل الكلام من خطاب المعتبرين بحال الظالمين إلى خطاب الظالمين أنفسهم بوعيدهم بما سيقول لهم يومئذ . فعلى الوجه الأول يكون جئتمونا حقيقة في الماضي ؛ لأنهم حينما يقال لهم هذا القول قد حصل منهم المجيء بين يدي الله . و ( قد ) للتحقيق .
وعلى الوجه الثاني يكون الماضي معبرا به عن المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه ، وتكون ( قد ) ترشيحا للاستعارة .
[ ص: 382 ] وإخبارهم بأنهم جاءوا ليس المراد به ظاهر الإخبار لأن مجيئهم معلوم لهم ، ولكنه مستعمل في تخطئتهم وتوقيفهم على صدق ما كانوا ينذرون به على لسان الرسول فينكرونه وهو الرجوع إلى الحياة بعد الموت للحساب بين يدي الله .
وقد يقصد مع هذا المعنى معنى الحصول في المكنة والمصير إلى ما كانوا يحسبون أنهم لا يصيرون إليه ، على نحو قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=39ووجد الله عنده ، وقول الراجز :
قد يصبح الله إمام الساري
والضمير المنصوب في جئتمونا ضمير الجلالة وليس ضمير الملائكة بدليل قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94كما خلقناكم .
و فرادى حال من الضمير المرفوع في جئتمونا أي منعزلين عن كل ما كنتم تعتزون به في الحياة الأولى من مال وولد وأنصار ، والأظهر أن فرادى جمع " فردان " مثل سكارى لسكران . وليس فرادى المقصور مرادفا لفراد المعدول ؛ لأن فراد المعدول يدل على معنى فردا فردا ، مثل ثلاث ورباع من أسماء العدد المعدولة . وأما فرادى المقصور فهو جمع " فردان " بمعنى المنفرد . ووجه جمعه هنا أن كل واحد منهم جاء منفردا عن ماله .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94كما خلقناكم أول مرة تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الذي كانوا ينكرونه فقد رأوه رأي العين ، فالكاف لتشبيه الخلق الجديد بالخلق الأول فهو في موضع المفعول المطلق .
و ما المجرورة بالكاف مصدرية . فالتقدير : كخلقنا إياكم ، أي جئتمونا معادين مخلوقين كما خلقناكم أول مرة ، فهذا كقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=15أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد .
[ ص: 383 ] والتخويل : التفضل بالعطاء . قيل : أصله إعطاء الخول - بفتحتين - وهو الخدم ، أي إعطاء العبيد ، ثم استعمل مجازا في إعطاء مطلق ما ينفع ، أي تركتم ما أنعمنا به عليكم من مال وغيره .
و ما موصولة ومعنى تركهم إياه وراء ظهورهم بعدهم عنه تمثيلا لحال البعيد عن الشيء بمن بارحه سائرا ، فهو يترك من يبارحه وراءه حين مبارحته ؛ لأنه لو سار وهو بين يديه لبلغ إليه ، ولذلك يمثل القاصد للشيء بأنه بين يديه ، ويقال للأمر الذي يهيئه المرء لنفسه : قد قدمه .
وتركتم عطف على جئتمونا وهو يبين معنى فرادى إلا أن في الجملة الثانية زيادة بيان لمعنى الانفراد بذكر كيفية هذا الانفراد لأن كلا الخبرين مستعمل في التخطئة والتنديم ، إذ جاءوا إلى القيامة وكانوا ينفون ذلك المجيء وتركوا ما كانوا فيه في الدنيا وكان حالهم حال من ينوي الخلود . فبهذا الاعتبار عطفت الجملة ولم تفصل . وأبو البقاء جعل الجملة حالا من الواو في جئتمونا فيصير ترك ما خولوه هو محل التنكيل .
وكذلك القول في جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وما نرى معكم شفعاءكم أنها معطوفة على جئتمونا و تركتم لأن هذا الخبر أيضا مراد به التخطئة والتلهيف ، فالمشركون كانوا إذا اضطربت قلوبهم في أمر الإسلام عللوا أنفسهم بأن آلهتهم تشفع لهم عند الله . وقد روى بعضهم : أن
النضر بن الحارث قال ذلك ، ولعله قاله استسخارا أو جهلا ، وأن الآية نزلت ردا عليه ، أي أن في الآية ما هو رد عليه لا أنها نزلت لإبطال قوله ؛ لأن هذه الآيات متصل بعضها ببعض ، وفي قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وما نرى معكم شفعاءكم بيان أيضا وتقرير لقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94فرادى .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وما نرى معكم شفعاءكم تهكم بهم ؛ لأنهم لا شفعاء لهم ، فسيق الخطاب إليهم مساق كلام من يترقب ، أي يرى شيئا فلم يره على
[ ص: 384 ] نحو قوله في الآية الأخرى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=27ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ، بناء على أن نفي الوصف عن شيء يدل غالبا على وجود ذلك الشيء ، فكان في هذا القول إيهام أن شفعاءهم موجودون سوى أنهم لم يحضروا ، ولذلك جيء بالفعل المنفي بصيغة المضارع الدال على الحال دون الماضي ليشير إلى أن انتفاء رؤية الشفعاء حاصل إلى الآن ، ففيه إيهام أن رؤيتهم محتملة الحصول بعد في المستقبل ، وذلك زيادة في التهكم .
وأضيف الشفعاء إلى ضمير المخاطبين لأنه أريد شفعاء معهودون ، وهم الآلهة التي عبدوها وقالوا
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=3ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=18ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله . وقد زيد تقرير هذا المعنى بوصفهم بقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء .
والزعم : القول الباطل ، سواء كان عن تعمد الباطل كما في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=60ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك أم كان عن سوء اعتقاد كما هنا ، وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=22ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ، وقد تقدم ذلك في هاتين الآيتين في سورة النساء وفي هذه السورة .
وتقديم المجرور في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94فيكم شركاء للاهتمام الذي وجهه التعجيب من هذا المزعوم ، إذ جعلوا الأصنام شركاء لله في أنفسهم وقد علموا أن الخالق هو الله تعالى فهو المستحق للعبادة وحده فمن أين كانت شركة الأصنام لله في استحقاق العبادة ، يعني لو ادعوا للأصنام شيئا مغيبا لا يعرف أصل تكوينه لكان العجب أقل ، لكن العجب كل العجب من ادعائهم لهم الشركة في أنفسهم ، لأنهم لما عبدوا الأصنام وكانت العبادة حقا لأجل الخالقية ، كان قد لزمهم من العبادة أن يزعموا أن الأصنام شركاء لله في أنفس خلقه ، أي في خلقهم ، فلذلك علقت النفوس بالوصف الدال على الشركة .
[ ص: 385 ] وتقدم معنى الشفاعة عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48ولا يقبل منها شفاعة في سورة البقرة .
وجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94لقد تقطع بينكم استئناف بياني لجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وما نرى معكم شفعاءكم لأن المشركين حين يسمعون قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وما نرى معكم شفعاءكم يعتادهم الطمع في لقاء شفعائهم فيتشوفون لأن يعلموا سبيلهم ، فقيل لهم : " لقد تقطع بينكم " ; تأييسا لهم بعد الإطماع التهكمي ، والضمير المضاف إليه عائد إلى المخاطبين وشفعائهم .
وقرأ
نافع ، nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ، وحفص عن
عاصم بفتح نون " بينكم " . فـ ( بين ) على هذه القراءة ظرف مكان دال على مكان الاجتماع والاتصال فيما يضاف هو إليه . وقرأ البقية بضم نون ( بينكم ) على إخراج ( بين ) عن الظرفية فصار اسما متصرفا ، وأسند إليه التقطع على طريقة المجاز العقلي .
وحذف فاعل " تقطع " على قراءة الفتح لأن المقصود حصول التقطع ، ففاعله اسم مبهم مما يصلح للتقطع وهو الاتصال . فيقدر : لقد تقطع الحبل أو نحوه . قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=166وتقطعت بهم الأسباب . وقد صار هذا التركيب كالمثل بهذا الإيجاز . وقد شاع في كلام العرب ذكر التقطع مستعارا للبعد وبطلان الاتصال تبعا لاستعارة الحبل للاتصال ، كما قال
امرؤ القيس :
تقطع أسباب اللبانة والهوى عشية جاوزنا حماة وشيزرا
فمن ثم حسن حذف الفاعل في الآية على هذه القراءة لدلالة المقام عليه ، فصار كالمثل . وقدر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري المصدر المأخوذ من تقطع فاعلا ، أي على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل ، أي وقع التقطع بينكم . وقال
التفتزاني : الأولى أنه أسند إلى ضمير الأمر لتقرره في النفوس ، أي تقطع الأمر بينكم .
وقريب من هذا ما يقال : إن بينكم صفة أقيمت مقام الموصوف
[ ص: 386 ] الذي هو المسند إليه ، أي أمر بينكم ، وعلى هذا يكون الاستعمال من قبيل الضمير الذي لم يذكر معاده لكونه معلوما من الفعل كقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=32حتى توارت بالحجاب ، لكن هذا لا يعهد في الضمير المستتر ؛ لأن الضمير المستتر ليس بموجود في الكلام وإنما دعا إلى تقديره وجود معاده الدال عليه . فأما والكلام خلي عن معاد وعن لفظ الضمير فالمتعين أن نجعله من حذف الفاعل كما قررته لك ابتداء ، ولا يقال : إن
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=32توارت بالحجاب ليس فيه لفظ ضمير ، إذ التاء علامة لإسناد الفعل إلى مؤنث لأنا نقول : التحقيق أن التاء في الفعل المسند إلى الضمير هي الفاعل .
وعلى قراءة الرفع جعل بينكم فاعلا ، أي أخرج عن الظرفية وجعل اسما للمكان الذي يجتمع فيه ماصدق الضمير المضاف إليه اسم المكان ، أي انفصل المكان الذي كان محل اتصالكم فيكون كناية عن انفصال أصحاب المكان الذي كان محل اجتماع . والمكانية هنا مجازية مثل
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=1لا تقدموا بين يدي الله ورسوله .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وضل عنكم عطف على
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94تقطع بينكم وهو من تمام التهكم والتأييس . ومعنى " ضل " : ضد اهتدى ، أي جهل شفعاؤكم مكانكم لما تقطع بينكم فلم يهتدوا إليكم ليشفعوا لكم . و ما موصولية ماصدقها الشفعاء لاتحاد صلتها وصلة
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ، أي الذين كنتم تزعمونهم شركاء ، فحذف مفعولا الزعم لدلالة نظيره عليهما في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94زعمتم أنهم فيكم شركاء ، وعبر عن الآلهة بـ " ما " الغالبة في غير العاقل لظهور عدم جدواها ، وفسر
ابن عطية وغيره ضل بمعنى غاب وتلف وذهب ، وجعلوا " ما " مصدرية ، أي ذهب زعمكم أنها تشفع لكم . وما ذكرناه في تفسير الآية أبلغ وأوقع .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94nindex.php?page=treesubj&link=28977_30337_30351وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ .
إِنْ كَانَ الْقَوْلُ الْمُقَدَّرُ فِي جُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=93أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ قَوْلًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=93أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ حِينَ دَفَعَهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْعَذَابِ : أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ ، وَيُقَالُ لَهُمْ : لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى . فَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِالْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ . وَعَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=93غَمَرَاتِ الْمَوْتِ حَقِيقَةً ، أَيْ فِي حِينِ النَّزْعِ يَكُونُ فِعْلُ جِئْتُمُونَا مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ ، مِثْلُ : قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ ، فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ قَارَبُوا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مَحْضِ تَصَرُّفِ اللَّهِ فِيهِمْ .
وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الْمُقَدَّرُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ فَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=93وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ مِنْ خِطَابِ الْمُعْتَبِرِينَ بِحَالِ الظَّالِمِينَ إِلَى خِطَابِ الظَّالِمِينَ أَنْفُسِهِمْ بِوَعِيدِهِمْ بِمَا سَيَقُولُ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ . فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ جِئْتُمُونَا حَقِيقَةً فِي الْمَاضِي ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَمَا يُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ قَدْ حَصَلَ مِنْهُمُ الْمَجِيءُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ . وَ ( قَدْ ) لِلتَّحْقِيقِ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ الْمَاضِي مُعَبَّرًا بِهِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ ، وَتَكُونُ ( قَدْ ) تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ .
[ ص: 382 ] وَإِخْبَارُهُمْ بِأَنَّهُمْ جَاءُوا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ظَاهِرَ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ مَجِيئَهُمْ مَعْلُومٌ لَهُمْ ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَخْطِئَتِهِمْ وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَى صِدْقِ مَا كَانُوا يُنْذِرُونَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ فَيُنْكِرُونَهُ وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْحِسَابِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ .
وَقَدْ يُقْصَدُ مَعَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْنَى الْحُصُولِ فِي الْمِكْنَةِ وَالْمَصِيرِ إِلَى مَا كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ لَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=39وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ ، وَقَوْلِ الرَّاجِزِ :
قَدْ يُصْبِحُ اللَّهُ إِمَامَ السَّارِي
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي جِئْتُمُونَا ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ وَلَيْسَ ضَمِيرُ الْمَلَائِكَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94كَمَا خَلَقْنَاكُمْ .
وَ فُرَادَى حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي جِئْتُمُونَا أَيْ مُنْعَزِلِينَ عَنْ كُلِّ مَا كُنْتُمْ تَعْتَزُّونَ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ وَأَنْصَارٍ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فُرَادَى جُمَعُ " فَرْدَانَ " مِثْلُ سُكَارَى لِسَكْرَانَ . وَلَيْسَ فُرَادَى الْمَقْصُورُ مُرَادِفًا لِفُرَادَ الْمَعْدُولِ ؛ لِأَنَّ فُرَادَ الْمَعْدُولَ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى فَرْدًا فَرْدًا ، مِثْلُ ثَلَاثٍ وَرُبَاعٍ مِنْ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ الْمَعْدُولَةِ . وَأَمَّا فُرَادَى الْمَقْصُورُ فَهُوَ جَمْعُ " فَرْدَانَ " بِمَعْنَى الْمُنْفَرِدِ . وَوَجْهُ جَمْعِهِ هُنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَاءَ مُنْفَرِدًا عَنْ مَالِهِ .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ تَشْبِيهٌ لِلْمَجِيءِ أُرِيدَ مِنْهُ مَعْنَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ الَّذِي كَانُوا يُنْكِرُونَهُ فَقَدْ رَأَوْهُ رَأْيَ الْعَيْنِ ، فَالْكَافُ لِتَشْبِيهِ الْخَلْقِ الْجَدِيدِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ .
وَ مَا الْمَجْرُورَةُ بِالْكَافِ مَصْدَرِيَّةٌ . فَالتَّقْدِيرُ : كَخَلْقِنَا إِيَّاكُمْ ، أَيْ جِئْتُمُونَا مُعَادِينَ مَخْلُوقِينَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=15أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ .
[ ص: 383 ] وَالتَّخْوِيلُ : التَّفَضُّلُ بِالْعَطَاءِ . قِيلَ : أَصْلُهُ إِعْطَاءُ الْخَوَلِ - بِفَتْحَتَيْنِ - وَهُوَ الْخَدَمُ ، أَيْ إِعْطَاءُ الْعَبِيدِ ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي إِعْطَاءِ مُطَلَّقِ مَا يَنْفَعُ ، أَيْ تَرَكْتُمْ مَا أَنْعَمْنَا بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ .
وَ مَا مَوْصُولَةٌ وَمَعْنَى تَرْكِهِمْ إِيَّاهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ بُعْدُهُمْ عَنْهُ تَمْثِيلًا لِحَالِ الْبَعِيدِ عَنِ الشَّيْءِ بِمَنْ بَارَحَهُ سَائِرًا ، فَهُوَ يَتْرُكُ مَنْ يُبَارِحُهُ وَرَاءَهُ حِينَ مُبَارَحَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَارَ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَبَلَغَ إِلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ يُمَثِّلُ الْقَاصِدَ لِلشَّيْءِ بِأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَيُقَالُ لِلْأَمْرِ الَّذِي يُهَيِّئُهُ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ : قَدْ قَدَّمَهُ .
وَتَرَكْتُمْ عَطْفٌ عَلَى جِئْتُمُونَا وَهُوَ يُبَيِّنُ مَعْنَى فُرَادَى إِلَّا أَنَّ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةَ بَيَانٍ لِمَعْنَى الِانْفِرَادِ بِذِكْرِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الِانْفِرَادِ لِأَنَ كِلَا الْخَبَرَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّخْطِئَةِ وَالتَّنْدِيمِ ، إِذْ جَاءُوا إِلَى الْقِيَامَةِ وَكَانُوا يَنْفُونَ ذَلِكَ الْمَجِيءَ وَتَرَكُوا مَا كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ حَالُهُمْ حَالَ مَنْ يَنْوِي الْخَلْودَ . فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ عُطِفَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُفْصَلْ . وَأَبُو الْبَقَاءِ جَعَلَ الْجُمْلَةَ حَالًا مِنَ الْوَاوِ فِي جِئْتُمُونَا فَيَصِيرُ تَرْكُ مَا خُوِّلُوهُ هُوَ مَحَلَّ التَّنْكِيلِ .
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جِئْتُمُونَا وَ تَرَكْتُمْ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أَيْضًا مُرَادٌ بِهِ التَّخْطِئَةُ وَالتَّلْهِيفُ ، فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا إِذَا اضْطَرَبَتْ قُلُوبُهُمْ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ عَلَّلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ . وَقَدْ رَوَى بَعْضُهُمْ : أَنَّ
النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ ذَلِكَ ، وَلَعَلَّهُ قَالَهُ اسْتِسْخَارًا أَوْ جَهْلًا ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ رَدًّا عَلَيْهِ ، أَيْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَا هُوَ رَدُّ عَلَيْهِ لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، وَفِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ بَيَانٌ أَيْضًا وَتَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94فُرَادَى .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا شُفَعَاءَ لَهُمْ ، فَسِيقَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ مَسَاقَ كَلَامِ مَنْ يَتَرَقَّبُ ، أَيْ يَرَى شَيْئًا فَلَمْ يَرَهُ عَلَى
[ ص: 384 ] نَحْوِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=27وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْوَصْفِ عَنْ شَيْءٍ يَدُلُّ غَالِبًا عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ، فَكَانَ فِي هَذَا الْقَوْلِ إِيهَامُ أَنَّ شُفَعَاءَهُمْ مَوْجُودُونَ سِوَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْضُرُوا ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى الْحَالِ دُونَ الْمَاضِي لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ انْتِفَاءَ رُؤْيَةِ الشُّفَعَاءِ حَاصِلٌ إِلَى الْآنِ ، فَفِيهِ إِيهَامُ أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ مُحْتَمَلَةُ الْحُصُولِ بَعْدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي التَّهَكُّمِ .
وَأُضِيفَ الشُّفَعَاءُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُ أُرِيدَ شُفَعَاءُ مَعْهُودُونَ ، وَهُمُ الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدُوهَا وَقَالُوا
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=3مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=18وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ . وَقَدْ زِيدَ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى بِوَصْفِهِمْ بِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ .
وَالزَّعْمُ : الْقَوْلُ الْبَاطِلُ ، سَوَاءً كَانَ عَنْ تَعَمَّدِ الْبَاطِلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=60أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ أَمْ كَانَ عَنْ سُوءِ اعْتِقَادٍ كَمَا هُنَا ، وَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=22وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ .
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94فِيكُمْ شُرَكَاءُ لِلِاهْتِمَامِ الَّذِي وَجَّهَهُ التَّعْجِيبُ مِنْ هَذَا الْمَزْعُومِ ، إِذْ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ فَمِنْ أَيْنَ كَانَتْ شَرِكَةُ الْأَصْنَامِ لِلَّهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ ، يَعْنِي لَوِ ادَّعَوْا لِلْأَصْنَامِ شَيْئًا مُغَيَّبًا لَا يُعْرَفُ أَصْلُ تَكْوِينِهِ لَكَانَ الْعَجَبُ أَقَلَّ ، لَكِنَّ الْعَجَبَ كُلَّ الْعَجَبِ مِنِ ادِّعَائِهِمْ لَهُمُ الشَّرِكَةَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَكَانَتِ الْعِبَادَةُ حَقًّا لِأَجَلِ الْخَالِقِيَّةِ ، كَانَ قَدْ لَزِمَهُمْ مِنَ الْعِبَادَةِ أَنْ يَزْعُمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءُ لِلَّهِ فِي أَنْفُسِ خَلْقِهِ ، أَيْ فِي خَلْقِهِمْ ، فَلِذَلِكَ عُلِّقَتِ النُّفُوسُ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى الشَّرِكَةِ .
[ ص: 385 ] وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ يَسْمَعُونَ قَوْلَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ يَعْتَادُهُمُ الطَّمَعُ فِي لِقَاءِ شُفَعَائِهِمْ فَيَتَشَوَّفُونَ لِأَنْ يَعْلَمُوا سَبِيلَهُمْ ، فَقِيلَ لَهُمْ : " لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ " ; تَأْيِيسًا لَهُمْ بَعْدَ الْإِطْمَاعِ التَّهَكُّمِيِّ ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ وَشُفَعَائِهِمْ .
وَقَرَأَ
نَافِعٌ ، nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ ، وَحَفْصٌ عَنْ
عَاصِمٍ بِفَتْحِ نُونِ " بَيْنَكُمْ " . فَـ ( بَيْنَ ) عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ظَرْفُ مَكَانٍ دَالٌّ عَلَى مَكَانِ الِاجْتِمَاعِ وَالِاتِّصَالِ فِيمَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ . وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ بِضَمِّ نُونِ ( بَيْنُكُمْ ) عَلَى إِخْرَاجِ ( بَيْنَ ) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ فَصَارَ اسْمًا مُتَصَرِّفًا ، وَأُسْنِدَ إِلَيْهِ التَّقَطُّعُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ .
وَحَذْفُ فَاعِلِ " تَقَطَّعَ " عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ التَّقَطُّعِ ، فَفَاعِلُهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ مِمَّا يَصْلُحُ لِلتَّقَطُّعِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ . فَيُقَدَّرُ : لَقَدْ تَقَطَّعَ الْحَبْلُ أَوْ نَحْوُهُ . قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=166وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ . وَقَدْ صَارَ هَذَا التَّرْكِيبُ كَالْمَثَلِ بِهَذَا الْإِيجَازِ . وَقَدْ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ذِكْرُ التَّقَطُّعِ مُسْتَعَارًا لِلْبُعْدِ وَبُطْلَانِ الِاتِّصَالِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْحَبْلِ لِلِاتِّصَالِ ، كَمَا قَالَ
امْرُؤُ الْقَيْسِ :
تَقَطَّعَ أَسْبَابُ اللُّبَانَةِ وَالْهَوَى عَشِيَّةَ جَاوَزْنَا حَمَاةَ وَشَيْزَرَا
فَمِنْ ثَمَّ حَسُنَ حَذْفُ الْفَاعِلِ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ ، فَصَارَ كَالْمَثَلِ . وَقَدَّرَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ الْمَصْدَرَ الْمَأْخُوذَ مِنْ تَقَطَّعَ فَاعِلًا ، أَيْ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مَصْدَرِهِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ ، أَيْ وَقَعَ التَّقَطُّعُ بَيْنَكُمْ . وَقَالَ
التَّفْتَزَانِيُّ : الْأَوْلَى أَنَّهُ أُسْنِدَ إِلَى ضَمِيرِ الْأَمْرِ لِتَقَرُّرِهِ فِي النُّفُوسِ ، أَيْ تَقَطَّعَ الْأَمْرُ بَيْنَكُمْ .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا يُقَالُ : إِنَّ بَيْنَكُمْ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ
[ ص: 386 ] الَّذِي هُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ ، أَيْ أَمْرُ بَيْنِكُمْ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِعْمَالُ مِنْ قَبِيلِ الضَّمِيرِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ مُعَادُهُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنَ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=32حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ، لَكِنَّ هَذَا لَا يُعْهَدُ فِي الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْكَلَامِ وَإِنَّمَا دَعَا إِلَى تَقْدِيرِهِ وُجُودُ مُعَادِهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ . فَأَمَّا وَالْكَلَامُ خَلِيٌّ عَنْ مُعَادٍ وَعَنْ لَفْظِ الضَّمِيرِ فَالْمُتَعَيَّنُ أَنْ نَجْعَلَهُ مِنْ حَذْفِ الْفَاعِلِ كَمَا قَرَّرْتُهُ لَكَ ابْتِدَاءً ، وَلَا يُقَالُ : إِنَّ
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=32تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ لَيْسَ فِيهِ لَفْظُ ضَمِيرٍ ، إِذِ التَّاءُ عَلَامَةٌ لِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مُؤَنَّثٍ لِأَنَّا نَقُولُ : التَّحْقِيقُ أَنَّ التَّاءَ فِي الْفِعْلِ الْمُسْنَدِ إِلَى الضَّمِيرِ هِيَ الْفَاعِلُ .
وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ جَعَلَ بَيْنَكُمْ فَاعِلًا ، أَيْ أُخْرِجَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَجُعِلَ اسْمًا لِلْمَكَانِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ مَاصَدَقُ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ اسْمُ الْمَكَانِ ، أَيِ انْفَصَلَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانَ مَحَلَّ اتِّصَالِكُمْ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ انْفِصَالِ أَصْحَابِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ مَحَلَّ اجْتِمَاعٍ . وَالْمَكَانِيَّةُ هُنَا مَجَازِيَّةٌ مِثْلُ
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=1لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94وَضَلَّ عَنْكُمْ عَطْفٌ عَلَى
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ التَّهَكُّمِ وَالتَّأْيِيسِ . وَمَعْنَى " ضَلَّ " : ضِدُّ اهْتَدَى ، أَيْ جَهِلَ شُفَعَاؤُكُمْ مَكَانَكُمْ لَمَّا تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْكُمْ لِيَشْفَعُوا لَكُمْ . وَ مَا مَوْصُولِيَّةٌ مَاصَدَقُهَا الشُّفَعَاءُ لِاتِّحَادِ صِلَتِهَا وَصِلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ، أَيِ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزَعُمُونَهُمْ شُرَكَاءَ ، فَحَذَفَ مَفْعُولَا الزَّعْمِ لِدَلَالَةِ نَظِيرِهِ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=94زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ، وَعَبَّرَ عَنِ الْآلِهَةِ بِـ " مَا " الْغَالِبَةِ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ لِظُهُورِ عَدَمِ جَدْوَاهَا ، وَفَسَّرَ
ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ ضَلَّ بِمَعْنَى غَابَ وَتَلِفَ وَذَهَبَ ، وَجَعَلُوا " مَا " مَصْدَرِيَّةً ، أَيْ ذَهَبَ زَعْمُكُمْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَكُمْ . وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَبْلَغُ وَأَوْقَعُ .