الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              449 [ ص: 587 ] 75 - باب: الأسير أو الغريم يربط في المسجد

                                                                                                                                                                                                                              461 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا روح، ومحمد بن جعفر، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة -أو كلمة نحوها- ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد؛ حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي . [ص: 35] قال روح: فرده خاسئا. [1210، 3284، 3423، 3423، 4808 - مسلم 541 - فتح: 1 \ 554] .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ساق حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة -أو كلمة نحوها- ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد؛ حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي . [ص: 35] قال روح: فرده خاسئا.

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث ذكره البخاري هنا، وفي أواخر الصلاة، وأحاديث الأنبياء، وصفة إبليس، وسورة ص من التفسير، وأخرجه مسلم في الصلاة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 588 ] ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              (سليمان) هو ابن داود صلوات الله وسلامه عليه وعلى والده وعلى سائر الأنبياء، ذكره الله تعالى في القرآن العظيم في مواضع.

                                                                                                                                                                                                                              وسيأتي في حديث أبي هريرة في قصة المرأتين في عدو الذئب على أحد ولديهما، وكان والده يشاوره في كثير من أموره مع صغر سنه لوفور عقله، وفيه قال تعالى: وورث سليمان داود [النمل: 16] أي: في نبوته وملكه وحكمه دون سائر أولاد داود.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الثعالبي في "عرائسه"، قال: وكان لداود اثنا عشر ابنا، وكان سليمان ملك الشام، وقيل: ملك الأرض كلها. وروي عن ابن عباس قال: ملك الأرض مؤمنان: سليمان وذو القرنين، وكافران: نمروذ وبختنصر.

                                                                                                                                                                                                                              قال كعب ووهب: كان سليمان أبيض جسيما وسيما وضيئا جميلا خاشعا متواضعا، يلبس الثياب البيض، ويجالس المساكين، ويقول: مسكين جالس مساكين. وكان حين ملك كبير الغزو لا يكاد يتركه، يحمله الرمح هو وعسكره ودوابهم حيث أرادوا، وتمر به وبعسكره الريح على المزر لا يحركها.

                                                                                                                                                                                                                              وعن محمد بن كعب القرظي: بلغنا أن عسكر سليمان كان مائة فرسخ: خمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة [ ص: 589 ] وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش. وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين، وملك وهو ابن (ثلاث عشرة) سنة، وابتدأ ببيت المقدس بعد ابتداء ملكه بأربع سنين.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              العفريت: وزنه فعليت، العاتي المتمرد من الجن الخبيث المنكر النافذ في الأمر المبالغ فيه، وقرئ: (عفرية من الجن) قال الجوهري: إذا سكنت الياء صيرت الهاء تاء، وإذا حركتها فالتاء هاء في الوقف.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى: ("تفلت علي"): تعرض علي فلتة أي: فجأة، وفي مسلم: (يفتك) بدل (تفلت)، وهو الأخذ في غفلة وخديعة وسرعة، وهو المراد بقوله في البخاري: أو كلمة نحوها، قال ابن قرقول: يفتك بضم التاء وكسرها، والفتك هنا تصحيف من تفلت كما في البخاري أي: توثب وأسرع لإضراري، والجمع: فلتات.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              (البارحة) أقرب ليلة مضت، قال في "المحكم": هي الليلة الخالية ولا تحقر. قال ثعلب: يحكى عن أبي زيد أنه قال: تقول: مذ غدوة إلى أن تزول الشمس قد سرينا الليلة، وفيما بعد الزوال إلى آخر النهار رأيت البارحة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 590 ] وفي "المنتهى" لأبي (المعالي): كل زائل بارح، ومنه سميت البارحة أدنى ليلة زالت عنك، تقول: لقيته البارحة، والبارحة الأولى، ومنذ ثلاث ليال. وقال قاسم في "دلائله": يقال بارحة الأولى يضاف الاسم إلى الصفة كما يقال: مسجد الجامع، ومنه الحديث: كانت لي شاة فعدا عليها الذئب بارحة الأولى.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها:

                                                                                                                                                                                                                              فيه دلالة على وجود الجن، وأنه قد يراهم بعض الآدميين، وإن قوله تعالى: من حيث لا ترونهم محمول على الغالب، فرؤيتهم غير مستحيلة؛ لأنهم أجسام لطيفة، والجسم وإن لطف فدركه غير مستحيل.

                                                                                                                                                                                                                              قال الخطابي: وقد رأينا غير واحد من الثقات وأهل الزهد والورع، وبلغنا عن غير واحد من أهل الرياضة وأهل الصفاء والإخلاص من أهل المعرفة أنهم يخبرون أنهم يدركون أشخاصهم.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: ورأيت أنا بعضهم في اليقظة (وسلمت) عليه، وسلم علي بعضهم نهارا من غير رؤية شخصه، قال: وروينا عن عمر بن الخطاب وأبي أيوب الأنصاري وغير واحد من الصحابة رؤية الجن، ومعالجتهم إياهم في غير طريق من حديث الأثبات والثقات من النقلة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 591 ] وقد قيل: إن رؤيته كانت للعفريت وبجسمه حتى يربطه من خصوصياته كما خص برؤية الملائكة، وقد رآه يوم انصرافهم عن الخندق، ورأى في هذه الليلة الشيطان وأقدر عليه لتجسمه؛ لأن الأجسام ممكن القدرة عليها، وأما غيره من الناس فلا يتمكن من هذا، ولا يرى أحد الشيطان على صورته غيره - صلى الله عليه وسلم - للآية السالفة، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل في غير شكله، كما تشكل للأنصاري في بيته صورة حية فقتله، فمات الأنصاري، ومن ذلك - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "إن بالمدينة جنا قد أسلموا".

                                                                                                                                                                                                                              وسموا جنا لاستتارهم، وهم نوع من العالم، والإجماع قائم على وجودهم، وإنما أنكرت المعتزلة تسلطهم على البشر فقط.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها:

                                                                                                                                                                                                                              معنى قوله: "فذكرت قول أخي سليمان أنه أعطي مملكة الجن، فلم أرد أن أزحمه فيما أعطي". فلذا لم يربطه، ويبعد أنه قال ذلك مع عدم القدرة عليه، وهذا الربط يحتمل أن يكون بعد تمامها، ويحتمل أن يكون فيها؛ لأنه شغل بشر.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها:

                                                                                                                                                                                                                              فيه إباحة ربط ما ذكر في المسجد، وعليه ترجم البخاري: والأسير مثله. قال المهلب: وفيه ربط من خشي هروبه لحق عليه أو دين، والتوثق منه في المسجد، وغيره، حكاه ابن بطال عنه، ثم قال: ورؤيته للعفريت هو مما خص به كما خص برؤية الملائكة، فقد أخبر أن جبريل له ستمائة جناح، وأخبرنا الله تعالى بذلك بقوله: لقد رأى من آيات ربه الكبرى .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 592 ] وبقوله: ولقد رآه نزلة أخرى وقد رآهم، وهذا قد أسلفناه.

                                                                                                                                                                                                                              ثامنها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: "فرده الله خاسئا" أي: ذليلا صاغرا مطرودا، يقال: خسأ الكلب خسوءا: تباعد، وخسأته: قلت: اخسأ، واعلم أن في بعض نسخ البخاري بعد هذا الباب الاغتسال إذا أسلم، وعليه مشى ابن بطال في "شرحه" ونحن أيضا، وفي بعضها ذكر الحديث الذي فيه من غير تبويب، وهو مطابق لما بوب له من ربط الأسير مطابقة ظاهرة؛ لأن ثمامة كان أسيرا وغريما للصحابة لما جاءوا به.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنير: ويجوز أن يكون البخاري سلك عادته في الاستدلال بالخفي والإعراض عن الجلي (اكتفاء) بسبق الأفهام إليه، ويجوز أن يكون ترك الاستدلال بحديث ثمامة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يربطه، ولم يأمر بربطه، وحيث رآه مربوطا قال: "أطلقوا ثمامة" فهو بأن يكون إنكارا لفعلهم أولى منه بأن يكون تقريرا بخلاف قصة العفريت، فإنه - صلى الله عليه وسلم - هم بربطه.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: في وفد بني حنيفة غدا عليه ثلاثة أيام، وهو كذلك، فإن تقرير أكثر من ذلك على أن ابن إسحاق ذكر أنه - عليه السلام - أمر بربطه؛ فزال ما ذكره.

                                                                                                                                                                                                                              وفي بعض النسخ: وكان شريح يأمر بالغريم أن يحبس إلى سارية المسجد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 593 ] وهذا رواه معمر عن أيوب، عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم بما عليه، وإن أعطى حقه، وإلا أمر به إلى السجن.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية