الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون

                                                                                                                                                                                                                                      قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه ، مما حكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة فيه ، ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانة من الله عز وجل ، وأن ما يفعلون في حقه فهو راجع إليه تعالى في الحقيقة ، وأنه ينتقم منهم لا محالة أشد انتقام .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلمة " قد " لتأكيد العلم بما ذكر المفيد لتأكيد الوعيد ، كما في قوله تعالى : قد يعلم ما أنتم عليه ، وقوله تعالى : قد يعلم الله المعوقين ، ونحوهما ، بإخراجها إلى معنى التكثير ، حسبما يخرج إليه " ربما " في مثل قوله :

                                                                                                                                                                                                                                      وإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود

                                                                                                                                                                                                                                      جريا على سنن العرب عند قصد الإفراط في التكثير ، تقول لبعض قواد العساكر : كم عندك من الفرسان ؟ فيقول : رب فارس عندي وعنده مقانب جمة ، يريد بذلك : التمادي في تكثير فرسانه ، ولكنه يروم إظهار براءته عن التزيد ، وإبراز أنه ممن يقلل كثير ما عنده ، فضلا عن تكثير القليل ، وعليه قوله عز وجل : ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه طريقة إنما تسلك عند كون الأمر من الوضوح ، بحيث لا تحوم حوله شائبة ريب حقيقة ، كما في الآيات الكريمة المذكورة ، أو ادعاء كما في البيت ، وقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      قد أترك القرن مصفرا أنامله

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      ولكنه قد يهلك المال نائله

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بكثرة علمه تعالى : كثرة تعلقه ، وهو متعد إلى اثنين ، وما بعده ساد مسدهما ، واسم " إن " ضمير الشأن ، وخبرها الجملة المفسرة له ، والموصول فاعل يحزنك ، وعائده محذوف ; أي : الذي يقولونه ، وهو ما حكي عنهم من قولهم : إن هذا إلا أساطير الأولين ، ونحو ذلك . وقرئ : ( ليحزنك ) من أحزن ، المنقول من حزن اللازم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : فإنهم لا يكذبونك تعليل لما يشعر به الكلام السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا ، لكن لا بطريق التشاغل عنه وعده هينا ، والإقبال التام على ما هو أهم منه من استعظام جحودهم بآيات الله عز وجل كما قيل ; فإنه مع كونه بمعزل من التسلية بالكلية ، مما يوهم كون حزنه عليه الصلاة والسلام لخاصة نفسه ، بل بطريق التسلي بما يفيده من بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القدر ، ورفعة المحل ، والزلفى من الله عز وجل إلى حيث لا غاية وراءه ، حيث لم يقتصر على جعل تكذيبه صلى الله عليه وسلم تكذيبا لآياته سبحانه ، على طريقة قوله تعالى : من يطع الرسول [ ص: 127 ] فقد أطاع الله ، بل نفى تكذيبهم عنه صلى الله عليه وسلم ، وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ; إيذانا بكمال القرب ، واضمحلال شئونه صلى الله عليه وسلم في شأن الله عز وجل ، نعم فيه استعظام لجناياتهم منبئ عن عظم عقوبتهم ، كأنه قيل : لا تعتد به وكله إلى الله تعالى ، فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة .

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ; أي : ولكنهم بآياته تعالى يكذبون ، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه .

                                                                                                                                                                                                                                      والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة ، واستعظام ما أقدموا عليه من جحود آياته تعالى ، وإيراد الجحود في مورد التكذيب ; للإيذان بأن آياته تعالى من الوضوح ، بحيث يشاهد صدقها كل أحد ، وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود الذي هو عبارة عن الإنكار مع العلم بخلافه ، كما في قوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ، وهو المعني بقول من قال : إنه نفي ما في القلب إثباته ، أو إثبات ما في القلب نفيه .

                                                                                                                                                                                                                                      والباء متعلقة بيجحدون ، يقال : جحد حقه وبحقه : إذا أنكره وهو يعلمه . وقيل : هو لتضمين الجحود معنى التكذيب ، وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور للقصر . وقيل : المعنى : فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ، ولكنهم يجحدون بألسنتهم ، ويعضده ما روي من أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل : يا أبا الحكم ; أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرنا ، فقال له : والله إن محمدا لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية ، والحجابة والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش ; فنزلت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمى الأمين ، فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ، ولكنهم كانوا يجحدون .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : فإنهم لا يكذبونك ; لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق ، ولكنهم يجحدون بآيات الله ، كما يروى أن أبا جهل كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نكذبك وإنك عندنا لصادق ، ولكنا نكذب ما جئتنا به ; فنزلت .

                                                                                                                                                                                                                                      وكأن صدق المخبر عند الخبيث بمطابقة خبره لاعتقاده ، والأول هو الذي تستدعيه الجزالة التنزيلية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ : ( لا يكذبونك ) من الإكذاب ; فقيل : كلاهما بمعنى واحد ، كأكثر وكثر ، وأنزل ونزل ، وهو الأظهر . وقيل : معنى أكذبه : وجده كاذبا ، ونقل عن الكسائي أن العرب تقول : كذبت الرجل ; أي : نسبت الكذب إليه ، وأكذبته ; أي : نسبت الكذب إلى ما جاء به لا إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية