الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بذلك : " وإن كان " ممن تقبضون منه من غرمائكم رءوس أموالكم " ذو عسرة " يعني : معسرا برءوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الإرباء ، فأنظروهم إلى ميسرتهم . [ ص: 29 ]

وقوله : " ذو عسرة " مرفوع ب " كان " فالخبر متروك ، وهو ما ذكرنا . وإنما صلح ترك خبرها من أجل أن النكرات تضمر لها العرب أخبارها ، ولو وجهت " كان " في هذا الموضع ، إلى أنها بمعنى الفعل المكتفي بنفسه التام ، لكان وجها صحيحا ، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر . فيكون تأويل الكلام عند ذلك : وإن وجد ذو عسرة من غرمائكم برءوس أموالكم ، فنظرة إلى ميسرة .

وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب : ( وإن كان ذا عسرة ) ، بمعنى وإن كان الغريم ذا عسرة " فنظرة إلى ميسرة " . وذلك وإن كان في العربية جائزا فغير جائز القراءة به عندنا ، لخلافه خطوط مصاحف المسلمين .

وأما قوله : ( فنظرة إلى ميسرة ) ، فإنه يعني : فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة ، كما قال : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام ) [ سورة البقرة : 196 ] ، وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبل ، فأغنى عن تكريره . .

و " الميسرة " المفعلة من " اليسر " مثل " المرحمة " و " المشأمة " .

ومعنى الكلام : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة ، فعليكم أن تنظروه حتى يوسر بالدين الذي لكم ، فيصير من أهل اليسر به .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . [ ص: 30 ]

ذكر من قال ذلك :

6277 - حدثني واصل بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : نزلت في الربا .

6278 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا هشام عن ابن سيرين : أن رجلا خاصم رجلا إلى شريح قال : فقضى عليه وأمر بحبسه ، قال : فقال رجل عند شريح : إنه معسر ، والله يقول في كتابه : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ! قال : فقال شريح : إنما ذلك في الربا ! وإن الله قال في كتابه : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) [ سورة النساء : 58 ] ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه .

6279 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن إبراهيم في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : ذلك في الربا .

6280 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن الشعبي أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق ، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول : أي فلان ، إن كنت موسرا فأد ، وإن كنت معسرا فإلى ميسرة .

6281 - حدثنا يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن أيوب عن محمد قال : جاء رجل إلى شريح فكلمه فجعل يقول : إنه معسر ، إنه معسر ! ! قال : فظننت أنه يكلمه في محبوس ، فقال شريح : إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار ، [ ص: 31 ] فأنزل الله - عز وجل - : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " وقال الله - عز وجل - : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ، فما كان الله - عز وجل - يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه ، أدوا الأمانات إلى أهلها .

6282 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية عن سعيد عن قتادة في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : فنظرة إلى ميسرة برأس ماله .

6283 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر ، وليست النظرة في الأمانة ، ولكن يؤدي الأمانة إلى أهلها .

6284 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : " وإن كان ذو عسرة فنظرة " برأس المال " إلى ميسرة " يقول : إلى غنى .

6285 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " هذا في شأن الربا .

6286 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك في قوله : ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) ، هذا في شأن الربا ، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون ، فلما أسلم من أسلم منهم ، أمروا أن يأخذوا رءوس أموالهم . [ ص: 32 ]

6287 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " يعني المطلوب .

6288 - حدثني ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل عن جابر عن أبي جعفر في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : الموت .

6289 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل عن جابر عن محمد بن علي مثله .

6290 - حدثني المثنى قال : حدثنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا سفيان عن المغيرة عن إبراهيم : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : هذا في الربا .

6291 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا شريك عن منصور عن إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة ، قال : إلى الموت ، أو إلى فرقة .

6292 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم : " فنظرة إلى ميسرة " قال : ذلك في الربا .

6293 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا مندل عن ليث عن مجاهد : " فنظرة إلى ميسرة " قال : يؤخره ، ولا يزد عليه . وكان إذا حل دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه ، زاد عليه وأخره .

6294 - وحدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا مندل عن ليث عن مجاهد : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : يؤخره ولا يزد عليه . [ ص: 33 ]

وقال آخرون : هذه الآية عامة في كل من كان له قبل رجل معسر حق من أي وجهة كان ذلك الحق من دين حلال أو ربا .

ذكر من قال ذلك :

6295 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك قال : من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة ، وأن تصدقوا خير لكم . قال : وكذلك كل دين على مسلم ، فلا يحل لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ، ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه . وإنما جعل النظرة في الحلال ، فمن أجل ذلك كانت الديون على ذلك .

6296 - حدثني علي بن حرب قال : حدثنا ابن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : نزلت في الدين .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " أنه معني به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهم عليهم ديون قد أربوا فيها في الجاهلية ، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم ، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا ، وبقبض رءوس أموالهم ، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا ، أو إنظار من كان منهم معسرا برءوس أموالهم إلى ميسرتهم . فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له ، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قبل الربا ، ويلزمه أداء رأس ماله - الذي كان أخذ منه ، أو لزمه [ ص: 34 ] من قبل الإرباء - إليه ، إن كان موسرا . وإن كان معسرا ، كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته ، وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه .

غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا ، وإياهم عنى بها ، فإن الحكم الذي حكم الله به من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه ، وهو بقضائه معسر في أنه منظر إلى ميسرته ، لأن دين كل ذي دين ، في مال غريمه ، وعلى غريمه قضاؤه منه - لا في رقبته . فإذا عدم ماله ، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع ، وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة : إما أن يكون في رقبة غريمه ، أو في ذمته يقضيه من ماله ، أو في مال له بعينه .

فإن يكن في مال له بعينه ، فمتى بطل ذلك المال وعدم فقد بطل دين رب المال ، وذلك ما لا يقوله أحد .

ويكون في رقبته ، فإن يكن كذلك ، فمتى عدمت نفسه فقد بطل دين رب الدين ، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك ، وذلك أيضا لا يقوله أحد .

فقد تبين إذا ، إذ كان ذلك كذلك ، أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله ، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته ، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجودا ، وإذا لم يكن على رقبته سبيل ، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم بحقه سبيل ؛ لأنه غير مانعه حقا ، له إلى قضائه سبيل ، فيعاقب بمطله إياه بالحبس .

التالي السابق


الخدمات العلمية