الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

* الإيمان هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟

والجواب: أن هذه المسألة نشأ النزاع فيها لما ظهرت محنة الجهمية في القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ وهي محنة الإمام أحمد وغيره من علماء المسلمين، فقد جرت فيها أمور يطول وصفها هنا. لكن لما ظهر القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأطفأ الله نار الجهمية المعطلة، صارت طائفة يقولون: إن كلام الله الذي أنزله مخلوق، ويعبرون عن ذلك بـ « اللفظ»، فصاروا يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، أو تلاوتنا أو قراءتنا له مخلوقة. وليس مقصودهم مجرد أصواتهم وحركاتهم، بل يدرجون في كلامهم نفس كلام الله الذي نقرؤه بأصواتنا وحركاتنا. وعارضهم طائفة أخرى قالوا: ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة. ورد الإمام أحمد على الطائفتين، وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع.

وتكلم الناس حينئذ في الإيمان فقالت طائفة: الإيمان مخلوق، وأدخلوا في ذلك ما تكلم الله به من الإيمان، مثل قوله: « لا إله إلا الله»، فصار مقتضى قولهم أن نفس هذه الكلمة مخلوقة لم يتكلم الله بها; فبدع [ ص: 77 ] الإمام أحمد هؤلاء، وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله»، أفيكون قول « لا إله إلا الله» مخلوقا!

ومراده أن من قال: هي مخلوقة مطلقا، كان مقتضى قوله أن الله لم يتكلم بهذه الكلمة، كما أن من قال: ألفاظنا وتلاوتنا وقراءتنا القرآن مخلوقة، كان مقتضى كلامه أن الله لم يتكلم بالقرآن الذي أنزله، وأن القرآن المنزل ليس هو كلام الله، وأن يكون جبريل نزل بمخلوق ليس هو كلام الله، والمسلمون يقرؤون قرآنا [مخلوقا] ليس هو كلام الله.

وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله تعالى، وإن كان مسموعا عن المبلغ عنه، فإن الكلام قد يسمع من المتكلم به، كما سمعه موسى بلا واسطة هذا سماع مطلق، كما يرى الشيء رؤية مطلقة. وقد يسمعه من المبلغ عنه، فيكون قد سمعه سماعا مقيدا، كما يرى الشيء [في] الماء والمرآة رؤية مقيدة لا مطلقة، ولما قال تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [التوبة: 62] كان معلوما عند جميع من خوطب بالقرآن أنه يسمع سماعا مقيدا من المبلغ، ليس المراد به أنه يسمع من الله كما سمعه موسى بن عمران، فهذا المعنى هو الذي عليه السلف والأئمة. [ ص: 78 ]

ثم بعد ذلك حدث أقوال أخر، فظن طائفة أنه سمع من الله. ثم من هؤلاء من قال: إنه يسمع صوت القارئ من الله، ومنهم من قال: إن صوت الرب حل في العبد، ومنهم من يقول: ظهر فيه ولم يحل فيه، ومنهم من يقول: لا نقول ظهر ولا حل، ثم منهم من يقول: الصوت المسموع غير مخلوق أو قديم، ومنهم من يقول: يسمع منه صوتان: مخلوق وغير مخلوق. ومن القائلين بأنه مسموع من الله من يقول: بأنه يسمع المعنى القديم القائم بذات الله مع سماع الصوت المحدث، قال هؤلاء: يسمع القديم والمحدث، كما قال أولئك: يسمع صوتين قديما ومحدثا. وطائفة أخرى قالت: لم يسمع الناس كلام الله، لا من الله ولا من غيره، قالوا: لأن الكلام لا يسمع إلا من المتكلم. ثم من هؤلاء من قال: يسمع حكايته، ومنهم من قال: يسمع عبارته لا حكايته، ومن القائلين بأنه مخلوق من قال: يسمع شيئان الكلام المخلوق الذي خلقه، والصوت الذي للعبد.

وهذه الأقوال كلها مبتدعة; لم يقل السلف شيئا منها، وكلها باطلة شرعا وعقلا، ولكن ألجأ أصحابها إليها اشتراك في الألفاظ واشتباه في المعاني، فإنه إذا قيل: سمعت [كلام] زيد، أو قيل: هذا كلام زيد، فإن هذا يقال على كلامه الذي تكلم هو به بلفظه ومعناه، سواء كان مسموعا [ ص: 79 ] منه أو من المبلغ عنه، مع العلم بالفرق بين الحالين، وأنه إذا سمع منه سمع بصوته، وإذا سمع من غيره سمع من ذلك المبلغ لا بصوت المتكلم، وإن كان اللفظ لفظ المتكلم.

وقد يقال مع القرينة: هذا كلام فلان، وإن ترجم عنه بلفظ آخر، كما حكى الله كلام من يحكي قوله من الأمم باللسان العربي، وإن كانوا إنما قالوا بلفظ عبري أو سرياني أو قبطي أو غير ذلك. وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر.

والمقصود أنه نشأ بين أهل السنة والحديث نزاع في مسألتي الإيمان والقرآن بسبب ألفاظ مجملة ومعاني متشابهة. وطائفة من أهل العلم والسنة كالبخاري صاحب « الصحيح»، ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما قالوا: الإيمان مخلوق. وليس مرادهم شيئا من صفات الله تعالى، وإنما مرادهم بذلك أفعال العباد. وقد اتفق أئمة السنة على أن أفعال العباد مخلوقة، وأصوات العباد مخلوقة، وقال يحيى بن سعيد القطان: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة. [ ص: 80 ]

وصار بعض الناس يظن أن البخاري وهؤلاء خالفوا أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة، وجرى للبخاري محنة بسبب ذلك، حتى زعم بعض الكذابين أن البخاري لما مات أمر أحمد بن حنبل أن لا يصلى عليه، وهذا كذب ظاهر; فإن البخاري -رحمه الله- مات بعد أحمد بن حنبل -رحمه الله- بنحو خمس عشرة سنة، توفي أحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين، وتوفي البخاري سنة ست وخمسين ومائتين، وكان أحمد بن حنبل يحب البخاري ويبجله ويعظمه، وأما تعظيم البخاري وأمثاله الإمام أحمد فهو أمر مشهور.

ولما صنف البخاري كتابه في « خلق أفعال العباد» -وذكر في آخر كتابه « الصحيح» أبوابا في هذا المعنى- ذكر أن كلا من الطائفتين القائلين بأن لفظنا بالقرآن مخلوق، والقائلين بأنه غير مخلوق ينتسبون إلى الإمام أحمد بن حنبل، ويدعون أنهم على قوله، وكلام الطائفتين كلام من لم يفهم [دقة] كلام أحمد رضوان الله عليه. [ ص: 81 ]

وطائفة أخرى كأبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر بن الطيب، والقاضي أبي يعلى -وغيرهم ممن يقولون: إنهم على اعتقاد أحمد بن حنبل وأئمة أهل السنة والحديث- قالوا: أحمد وغيره إنما كرهوا أن يقال: لفظت بالقرآن; لأن اللفظ هو الطرح والنبذ.

وطائفة أخرى كأبي محمد بن حزم وغيره ممن يقول: إنه متبع لأحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة [إلى غير هؤلاء ممن ينتسب إلى السنة ومذهب] أئمة الحديث، ويقولون: إنهم على اعتقاد أحمد بن حنبل ونحوه من أهل السنة، وهم لم يعرفوا حقيقة ما كان يقوله أهل السنة كأحمد بن حنبل. وقد بسطنا أقوال السلف والأئمة كأحمد بن حنبل وغيره في غير هذا الموضع.

خلا البخاري وأمثاله، فإن هؤلاء من أعرف الناس بقول أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة.

وقد رأيت طائفة تنتسب إلى السنة والحديث كأبي نصر السجزي وأمثاله ممن يردون على أبي عبد الله البخاري يقولون: إن أحمد بن حنبل كان يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق. وذكروا روايات كاذبة لا [ ص: 82 ] ريب فيها، والقول المتواتر عن أحمد بن حنبل من رواية ابنيه صالح وعبد الله، وحنبل، والمروذي، وفوران، ومن لا يحصى يبين أن أحمد كان ينكر على هؤلاء [وهؤلاء]، وقد صنف أبو بكر المروذي في ذلك مصنفا، ذكر فيه قول أحمد بن حنبل وغيره من أئمة العلم، وقد ذكر ذلك الخلال في كتاب « السنة»، وذكر بعضه أبو عبد الله بن بطة في كتاب « الإبانة» وغيره، وقد ذكر كثيرا من ذلك أبو عبد الله بن منده فيما صنفه في مسألة اللفظ.

وقال أبو محمد بن قتيبة الدينوري: لم يختلف أهل الحديث في شيء من اعتقادهم إلا في مسألة اللفظ. ثم ذكر ابن قتيبة -رحمه الله- أن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ، فاللفظ الذي هو فعل العبد يراد به نفس الكلام الذي هو فعل العبد وصوته وهو مخلوق، وأما نفس كلام الله الذي يتكلم به العباد فليس مخلوقا.

التالي السابق


الخدمات العلمية