الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : وما من دابة في الأرض ... إلخ ، كلام مستأنف مسوق لبيان كمال قدرته عز وجل ، وشمول علمه وسعة تدبيره ، ليكون كالدليل على أنه تعالى قادر على تنزيل الآية ، وإنما لا ينزلها محافظة على الحكم البالغة .

                                                                                                                                                                                                                                      وزيادة " من " لتأكيد الاستغراق ، و" في " متعلقة بمحذوف ، هو وصف لدابة ، مفيد لزيادة التعميم ، كأنه قيل : وما فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                      وكذا زيادة الوصف في قوله تعالى : ولا طائر يطير بجناحيه مع ما فيه من زيادة التقرير ; أي : ولا طائر من الطيور يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه ، كما هو المشاهد المعتاد . وقرئ : ( ولا طائر ) بالرفع عطفا على محل الجار والمجرور ، كأنه قيل : وما من دابة ولا طائر .

                                                                                                                                                                                                                                      إلا أمم ; أي : طوائف متخالفة ، والجمع باعتبار المعنى ، كأنه قيل : وما من دواب ولا طير إلا أمم .

                                                                                                                                                                                                                                      أمثالكم ; أي : كل أمة منها مثلكم في أن أحوالها محفوظة ، وأمورها مقننة ، ومصالحها مرعية ، جارية على سنن السداد ، ومنتظمة في سلك التقديرات الإلهية ، والتدبيرات الربانية .

                                                                                                                                                                                                                                      ما فرطنا في الكتاب من شيء يقال : فرط الشيء ; أي : ضيعه وتركه . قال ساعدة بن حوية : معه سقاء لا يفرط حمله ; أي : لا يتركه ولا يفارقه ، ويقال : فرط في الشيء ; أي : أهمل ما ينبغي أن يكون فيه وأغفله .

                                                                                                                                                                                                                                      فقوله تعالى : " في الكتاب " ; أي : في القرآن ، على الأول ظرف لغو ، وقوله تعالى : " من شيء " مفعول لفرطنا ، ومن مزيدة للاستغراق ; أي : ما تركنا في القرآن شيئا من الأشياء المهمة ، التي من جملتها بيان أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغي .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى الثاني مفعول للفعل ، و" من شيء " في موضع المصدر ; أي : ما جعلنا الكتاب مفرطا فيه شيئا من التفريط ، بل ذكرنا فيه كل ما لا بد من ذكره ، وأيا ما كان ; فالجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : الكتاب : اللوح ; فالمراد بالاعتراض : الإشارة إلى أن أحوال الأمم مستقصاة في اللوح المحفوظ ، غير مقصورة على هذا القدر المجمل . وقرئ : ( فرطنا ) بالتخفيف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : ثم إلى ربهم يحشرون بيان لأحوال الأمم المذكورة في الآخرة بعد بيان أحوالها في الدنيا ، وإيراد ضميرها على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مجراهم ، والتعبير عنها بالأمم ; أي : إلى مالك أمورهم يحشرون يوم القيامة كدأبكم ، لا إلى غيره ، فيجازيهم ، فينصف بعضهم من بعض ، حتى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء ، وقيل : حشرها : موتها ، ويأباه مقام تهويل الخطب وتفظيع الحال .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية