الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 252 ] كتاب الأيمان

                                                                                                                                            مختصر الأيمان والنذور وما دخل فيهما من الجامع

                                                                                                                                            من كتاب الصيام ومن الإملاء ، ومن مسائل شتى سمعتها لفظا

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما اليمين فهي القسم ، سمي يمينا ؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل واحد منهم يمينه على يمين صاحبه .

                                                                                                                                            والأصل في الأيمان قول الله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم [ البقرة : 224 ] .

                                                                                                                                            أما العرضة في كلام العرب ، ففيها وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها القوة ، والشدة .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكثر ذكر الشيء حتى يصير عرضة له ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                            فلا تجعلني عرضة للوائم

                                                                                                                                            وأما العرضة في الأيمان ، ففيها تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يحلف بها في كل حق وباطل ، فيبتذل اسمه ، ويجعله عرضة .

                                                                                                                                            والثاني : أن يجعل يمينه علة يتعلل بها في بره ، وفيها وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يحلف : لا يفعل الخير ، فيمتنع منه لأجل يمينه .

                                                                                                                                            والثاني : أن يحلف : ليفعلن الخير ، فيفعله لبره في يمينه لا للرغبة في ثوابه .

                                                                                                                                            وفي قوله : أن تبروا تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تبروا في أيمانكم .

                                                                                                                                            والثاني : أن تبروا أرحامكم .

                                                                                                                                            وفي قوله : وتتقوا تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تتقوا المعاصي .

                                                                                                                                            والثاني : أن تتقوا الخبث والله سميع لأيمانكم عليم بافتقاركم .

                                                                                                                                            [ ص: 253 ] وقال تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم [ البقرة : 225 ] .

                                                                                                                                            واللغو في كلام العرب هو ما كان قبيحا مذموما ، وخطأ مذموما مهجورا ، ومنه قوله تعالى : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه [ القصص : 55 ] .

                                                                                                                                            وفي لغو الأيمان سبعة تأويلات ، وقد أفرد الشافعي لذلك بابا يذكر فيه ، وفي ترك المؤاخذة به وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يؤاخذ فيه بالكفارة .

                                                                                                                                            والثاني : لا يؤاخذ فيه بالإثم .

                                                                                                                                            وفي قوله تعالى : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ، تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما قصدتم من الأيمان .

                                                                                                                                            والثاني : ما اعتمدتم من الكذب ، والله غفور ، لعباده فيما لغوا من أيمانهم حليم في ترك معاجلتهم بالعقوبة على معاصيهم .

                                                                                                                                            وقال تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ المائدة : 89 ] . وعقدها هو لفظ باللسان ، وقصد بالقلب ؛ لأن ما لم يقصده من أيمانه هو لغو لا يؤاخذ به .

                                                                                                                                            وفي تشديد قوله : عقدتم تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : تغليظ المأثم بتكرارها .

                                                                                                                                            والثاني : أن تكرارها في المحلوف عليه إذا كان واحدا لم يلزم فيه إلا كفارة واحدة .

                                                                                                                                            ثم قال تعالى : فكفارته إطعام عشرة مساكين [ المائدة : 89 ] . فيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها كفارة ما عقدوه من الأيمان ، قاله الحسن ، وقتادة .

                                                                                                                                            والثاني : أنها كفارة الحنث بعد عقد الأيمان ، ولعله قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والأصح عندي من إطلاق هذين الوجهين أن يعتبر حال اليمين في عقدها وحلها ، فإنها لا تخلو من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون عقدها طاعة ، وحلها معصية .

                                                                                                                                            كقوله : والله لا قتلت نفسا خيرة ، ولا شربت خمرا .

                                                                                                                                            فإذا حلف بقتل النفس ، وشرب الخمر ، فكانت الكفارة لتكفير مأثم الحنث دون عقد اليمين .

                                                                                                                                            [ ص: 254 ] والحال الثانية : أن يكون عقدها معصية ، وحلها طاعة .

                                                                                                                                            كقوله : " والله لا صليت ولا صمت " .

                                                                                                                                            فإذا حنث بالصلاة والصيام كانت الكفارة لتكفير مأثم اليمين في دون الحنث .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يكون عقدها مباحا ، وحلها مباحا .

                                                                                                                                            كقوله : " والله لا لبست هذا الثوب ، ولا دخلت هذه الدار " .

                                                                                                                                            فالكفارة تتعلق بهما ، وهي بالحنث أحق ، لاستقرار وجوبها به .

                                                                                                                                            وقال تعالى : واحفظوا أيمانكم ، وفيه ثلاثة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدهما : احفظوها أن يحلفوا .

                                                                                                                                            والثاني : احفظوها أن تحنثوا .

                                                                                                                                            والثالث : احفظوها لتكفروا .

                                                                                                                                            والسنة ما رواه أبو أمامة الحارثي ، وهو إياس بن ثعلبة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من اقتطع بيمينه مال امرئ مسلم حرم الله عليه الجنة ، وأوجب له النار . قيل : وإن كان شيئا يسيرا . قال : وإن كان سواكا من أراك وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، ويكفر عن يمينه .

                                                                                                                                            وروي عن النبي أنه قال : اليمين حنث أو مندمة .

                                                                                                                                            وقد حلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح ، فقال : والله لأغزون قريشا ، والله لأغزون قريشا ، والله لأغزون قريشا .

                                                                                                                                            وروي أنه قال : إن شاء الله .

                                                                                                                                            وروي أنه كان إذا أراد أن يحلف قال : لا والذي نفس محمد بيده وروي أنه كان يقول : لا ومقلب القلوب .

                                                                                                                                            فإذا تقرر هذا ، فعقد اليمين موضوعة لتحقيق المحلوف عليه إن كان ماضيا ، أو لالتزامه إن كان مستقبلا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية