الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 60 ] ( فصل ) هل إزالة النجاسة عن ثوب مصل : ولو طرف عمامته وبدنه [ ص: 61 ] ومكانه : لا طرف حصيره . سنة أو واجبة إن ذكر وقدر [ ص: 62 ] وإلا أعاد الظهرين للاصفرار ؟ خلاف .

التالي السابق


ولما فرغ من الكلام على وسيلة الطهارة وما ناسبها شرع في مقاصدها وبدأ منها بطهارة الخبث لقلة الكلام عليها فقال :

[ ص: 60 ] ( فصل )

في بيان حكم إزالة النجاسة وكيفيتها وما يعفى عنه منها وسقوطها على المصلي والشك في الأواني والولوغ وما ناسبها وبدأ بحكم إزالتها موطئا له بصورة استفهام لحكاية الخلاف فيه تنبيها للواقف على تلقيه فقال :

( هل إزالة ) بكسر الهمز مصدر أزال مضاف لمفعوله ( النجاسة ) أي الصفة الحكمية الموجبة لموصوفها منع الصلاة به أو فيه وكذا تقليلها إن تعدد محلها ووجد ماء يسير كاف أحد المحلين فقط بخلاف ما في محل واحد فغسل بعضه يزيدها انتشارا وصلة إزالة ( عن ثوب ) أي محمول ( مصل ) أي مريد صلاة فرض أو نفل بالغ ذكر أو أنثى والصبي الذي يريد الصلاة تندب له إزالتها عن ثوبه ومكانه البناني ليس خطاب الصبي بهما على الوجوب أو السنية كخطاب البالغ بل على سبيل الندب فقط فلا يدخل في كلام المصنف بل يقصر كلامه والله أعلم .

ومريد الطواف كمريد الصلاة ومن لم يردهما تندب له إزالتها عن بدنه على أن التلطخ بها مكروه وهو الراجح وتجب على أنه محرم سواء كان قميصا أو سراويل أو عمامة أو غيرها فهو من عموم المجاز بقرينة قوله : ( ولو ) كان الثوب ( طرف ) بفتح الراء أي بعض ( عمامته ) أي المصلي المرمي بالأرض والطرف الآخر متعمم به على رأسه أو متحزم به أو ماسك له بيده فالعمامة كلها محمولة للمصلي في هذه الصور سواء تحرك طرفها الذي على الأرض بحركته أم لا وأشار بلو إلى خلاف في المذهب بعدم الأمر بإزالتها عن طرف العمامة المذكور مطلقا أو إن لم يتحرك بحركته ومثل طرف العمامة طرف غيرها كرداء وحبل . ( و ) عن ظاهر ( بدنه ) أي المصلي ومنه داخل فمه وأنفه وعينه وأذنه ولا تكفي [ ص: 61 ] غلبة الريق والدمع إلا لخوف ضرر فيعفى عنه ومن أكل أو شرب نجسا فقال التونسي فيه ما بداخل الجسم من نجاسة لغو .

وقال اللخمي ما أدخل من النجاسات في باطن الجسد كما بظاهره ونقله عن رواية محمد عج وحاصل ما يستفاد من كلامهم أن من شرب خمرا ونحوها على الوجه المحرم فإن قدر على التقايؤ ولم يفعل وصلى فهو كمن صلى بالنجاسة متعمدا ولو تاب وإن لم يقدر عليه وصلى فهو كالمصلي بها غير متعمد وإن شربها لغصة أو لظنها غيرها وقدر عليه ، ولم يفعله وصلى فصلاته باطلة .

( و ) عن ( مكانه ) أي المصلي الذي تمسه أعضاؤه بالفعل كموضع قدميه وكفيه وجبهته وركبتيه وساقه وأليته وفخذه وما لا يمسه بالفعل كموضع لا يخاطب بإزالتها عنه كما تحت صدره وما بين قدميه وما هو عن يمينه أو شماله أو أمامه أو خلفه وكالموضع المرمي إليه بالسجود .

( لا ) عن ( طرف ) بفتح الراء أي جانب ( حصيره ) أي المصلي من جهة يمينه أو يساره أو أمامه أو خلفه أو جهة الأرض التي فرش عليها في الجواهر وليكن ما يمس بدن المصلي عند القيام والجلوس والسجود طاهرا زاد في الذخيرة وأما ما لا يمسه فلا يضره وفي الإكمال أن ثياب المصلي إذا كانت تمس نجاسة جافة ولا يجلس عليها المصلي فلا تضره .

وخبر إزالة النجاسة ( سنة ) بضم السين المهملة وشد النون معناها لغة : الطريق وعرفا : طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي داوم عليها وأظهرها في جماعة ولم يدل دليل على وجوبها أي مطلوبة طلبا مؤكدا غير جازم وشهره ابن رشد في البيان وعبد الحق في نكته وابن يونس في جامعه وحكى بعضهم الاتفاق عليه .

( أو واجبة ) وجوب الشروط وشهره اللخمي قال : وصرح به غير واحد وجعله مذهب المدونة ( إن ذكر ) أي تذكر المصلي النجاسة فيما ذكر ( وقدر ) المصلي على إزالتها بوجود ماء طهور أو ثوب طاهر أو بالانتقال إلى مكان طاهر قرر ابن مرزوق والحطاب وابن فجلة والمسناوي أن الذكر والقدرة شرطان في الوجوب فقط وأما السنية فمطلقة [ ص: 62 ] ذكر أو نسي قدر أو عجز وقرر عج وعبق أنهما شرطان فيها أيضا واستشكل الأول بأنه يستلزم تكليف الناسي والعاجز وأجيب بأن المراد بها في حقهما ثمرتها أي ندب الإعادة في الوقت إن تذكر الناسي وقدر العاجز فيه لا طلبها منهما حال النسيان والعجز لرفع القلم عن الناسي وامتناع التكليف بما لا يطاق والثاني بأنها لا تنحط عن مقتضى السنية من ندب الإعادة الوقتية بالنسيان والعجز وأجيب بأن اشتراطهما فيها من حيث رفع الخطاب بها حالهما فهو خلاف في حال فمن نظر إلى رفع الطلب قيد السنية بهما ومن نظر إلى طلب الإعادة الوقتية بعد التذكر والقدرة أطلقها وكلاهما صحيح .

( وإلا ) أي وإن لم يذكر النجاسة أو لم يقدر على إزالتها وصلى بها ناسيا لها أو غير عالم بها أو عاجزا عن إزالتها واستمر نسيانه أو عدم علمه بها أو عجزه حتى أتم الصلاة ( أعاد ) ندبا بنية الفرض ( الطهرين ) أي الظهر والعصر ففيه تغليب ( للاصفرار ) أي أوله فلا يعيدهما فيه وأعاد العشاءين لطلوع الفجر والصبح لطلوع الشمس هذا مذهب المدونة واستشكل بأن القياس إما إعادة الظهرين للغروب أو العشاءين لآخر الثلث الأول والصبح للأسفار وأجيب بأن الإعادة كالتنقل وهو شديد الكراهة في الاصفرار ومندوب في الليل كله وبمراعاة القول بأنه لا ضروري للصبح فيه .

( خلاف ) لفظي لاتفاقهما على إعادة الذاكر القادر وصلاته بها أبدا والعاجز والناسي في الوقت ورد بوجوب الإعادة على القول بوجوب إزالتها وندبها على سنيتها وبأن القائل بأحدهما يجيب عما استدل به الآخر وبأن المصنف يشير بخلاف للاختلاف في التشهير وهذه كلها تفيد أنه معنوي وأجيب عن الأول بمنعه وأن الإعادة الأبدية واجبة على السنية أيضا ابن رشد بعد ذكره القول بأن إزالتها سنة وعليه فالمصلي بها عامدا يعيد أبدا وجوبا كما قيل في ترك سنة عمدا من سنن الصلاة .

وعن الثاني بأن الاختلاف في الاستدلال لم يتفق بين من قال بالسنية ومن قال بالوجوب المقيد بالذكر والقدرة وإنما وقع بينهما وبين من قال بالوجوب المطلق كأبي الفرج وعن [ ص: 63 ] الثالث بأن إشارة المصنف بخلاف للخلاف في التشهير تشمل اختلافهم في تشهير الحكم أو عبارته وما هنا من الثاني وإن كانت أغلبية في الأول هذا في المذهب طريقتان طريقة لابن رشد وهي التي مشى عليها المصنف من إعادة الناسي والعاجز في الوقت والذاكر القادر أبدا وجوبا على القول بالسنية أيضا وحرمة قدومه .

وعليها فالخلاف لفظي وطريقة للقرطبي وهي أنه على السنية تندب إعادة المصلي بها في الوقت فقط سواء كان ذاكرا أو ناسيا قادرا أو عاجزا وعلى الوجوب يعيد الذاكر القادر أبدا وجوبا والناسي والعاجز في الوقت ندبا وعليها فالخلاف حقيقي فمن قال يعيد الذاكر القادر أبدا على الوجوب والسنية وجوبا على الأول وندبا على الثاني لا سلف له والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية