الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 116 ] أفتطمعون : تلوين للخطاب؛ وصرف له عن اليهود؛ إثر ما عدت هناتهم؛ ونعيت عليهم جناياتهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ومن معه من المؤمنين؛ والهمزة لإنكار الواقع؛ واستبعاده؛ كما في قولك: أتضرب أباك؟ لا لإنكار الوقوع؛ كما في قوله: أأضرب أبي؟ والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام؛ ويستدعيه نظام الكلام؛ لكن لا على قصد توجيه الإنكار إلى المعطوفين معا؛ كما في " أفلا تبصرون " ؛ على تقدير المعطوف عليه منفيا؛ أي: "ألا تنظرون؛ فلا تبصرون؟"؛ فالمنكر كلا الأمرين؛ بل إلى ترتب الثاني على الأول؛ مع وجوب أن يترتب عليه نقيضه؛ كما إذا قدر الأول مثبتا؛ أي: "أتنظرون فلا تبصرون؟"؛ فالمنكر ترتب الثاني على الأول؛ مع وجوب أن يترتب عليه نقيضه؛ أي: "أتسمعون أخبارهم؛ وتعلمون أحوالهم؛ فتطمعون؟"؛ ومآل المعنى: أبعد أن علمتم تفاصيل شؤونهم المؤيسة عنهم تطمعون أن يؤمنوا ؟ فإنهم متماثلون في شدة الشكيمة؛ والأخلاق الذميمة؛ لا يتأتى من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم؛ و"أن" مصدرية؛ حذف عنها الجار؛ والأصل: "في أن يؤمنوا"؛ وهي - مع ما في حيزها - في محل النصب؛ أو الجر؛ على الخلاف المعروف؛ واللام في "لكم" لتضمين معنى الاستجابة؛ كما في قوله - عز وجل -: فآمن له لوط ؛ أي: في إيمانهم مستجيبين لكم؛ أو للتعليل؛ أي: في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم؛ وصلة الإيمان محذوفة؛ لظهور أن المراد به معناه الشرعي؛ وستقف على ما فيه من المزية؛ بإذن الله (تعالى).

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان فريق منهم : "الفريق": اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ كـ "الرهط"؛ و"القوم"؛ والجار والمجرور في محل الرفع؛ أي: فريق كائن منهم؛ وقوله (تعالى): يسمعون كلام الله ؛ خبر "كان"؛ وقرئ: "كلم الله"؛ والجملة حالية؛ مؤكدة للإنكار؛ حاسمة لمادة الطمع؛ مثل أحوالهم الشنيعة المحكية فيما سلف؛ على منهاج قوله (تعالى): وهم لكم عدو ؛ بعد قوله (تعالى): أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ؛ أي: والحال أن طائفة منهم - قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هم قوم من السبعين المختارين للميقات - كانوا يسمعون كلامه (تعالى) حين كلم موسى - عليه السلام - بالطور؛ وما أمر به؛ ونهي عنه؛ ثم يحرفونه ؛ عن مواضعه؛ لا لقصور فهمهم عن الإحاطة بتفاصيله؛ على ما ينبغي؛ لاستيلاء الدهشة والمهابة؛ حسبما يقتضيه مقام الكبرياء؛ بل من بعد ما عقلوه ؛ أي: فهموه؛ وضبطوه بعقولهم؛ ولم تبق لهم في مضمونه؛ ولا في كونه كلام رب العزة ريبة أصلا؛ فلما رجعوا إلى قومهم أداه الصادقون إليهم؛ كما سمعوا؛ وهؤلاء قالوا: سمعنا الله (تعالى) يقول - في آخر كلامه -: "إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا؛ وإن شئتم فلا تفعلوا؛ فلا بأس"؛ فـ "ثم" للتراخي زمانا؛ أو رتبة؛ وقال القفال: سمعوا كلام الله وعقلوا مراده (تعالى) منه؛ فأولوه تأويلا فاسدا؛ وقيل: هم رؤساء أسلافهم الذين تولوا تحريف التوراة بعد ما أحاطوا بما فيها علما؛ وقيل: هم الذين غيروا نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في عصره؛ وبدلوا آية الرجم؛ ويأباه الجمع بين صيغتي الماضي؛ والمستقبل؛ الدال على وقوع السماع؛ والتحريف؛ فيما سلف؛ إلا أن يحمل ذلك على تقدمه على زمان نزول الآية الكريمة؛ لا على تقدمه على عهده - عليه الصلاة والسلام -؛ هذا.. والأول هو الأنسب بالسماع والكلام؛ إذ [ ص: 117 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التوراة - وإن كانت كلام الله - عز وعلا - لكنها باسم "الكتاب" أشهر؛ وأثر التحريف فيه أظهر؛ ووصف اليهود بتلاوتها أكثر؛ لا سيما رؤساؤهم المباشرون للتحريف؛ فإن وظيفتهم التلاوة؛ دون السماع؛ فكان الأنسب حينئذ أن يقال: "يتلون كتاب الله (تعالى)"؛ فالمعنى: أفتطمعون في أن يؤمن هؤلاء بواسطتكم؛ ويستجيبوا لكم؛ والحال أن أسلافهم؛ الموافقين لهم في خلال السوء؛ كانوا يسمعون كلام الله بلا واسطة؛ ثم يحرفونه من بعد ما علموه يقينا؛ ولا يستجيبون له؛ هيهات؛ ومن ههنا ظهر ما في إيثار "لكم"؛ على "بالله"؛ من الفخامة؛ والجزالة. وقوله - عز وجل -: وهم يعلمون : جملة حالية من فاعل "يحرفونه"؛ مفيدة لكمال قباحة حالهم؛ مؤذنة بأن تحريفهم ذلك لم يكن بناء على نسيان ما عقلوه؛ أو على الخطإ في بعض مقدماته؛ بل كان ذلك حال كونهم عالمين؛ مستحضرين له؛ أو وهم يعلمون أنهم كاذبون؛ ومفترون.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية