الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ذكاة الجنين قال أبو بكر : اختلف أهل العلم في جنين الناقة والبقرة وغيرهما إذا خرج ميتا بعد ذبح الأم ، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه : " لا يؤكل إلا أن يخرج حيا فيذبح " وهو قول حماد .

وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمة الله عليهم : " يؤكل أشعر أو لم يشعر " وهو قول الثوري . وقد روي عن علي وابن عمر قالا ذكاة الجنين ذكاة أمه . وقال مالك : " إن تم خلقه ونبت شعره أكل وإلا فلا " وهو قول سعيد بن المسيب . وقال الأوزاعي : " إذا تم خلقه فذكاة أمه ذكاته " . قال الله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم وقال في آخرها إلا ما ذكيتم وقال : إنما حرمت عليكم الميتة فحرم الله الميتة مطلقا واستثنى المذكى منها

وبين النبي صلى الله عليه وسلم الذكاة في المقدور على ذكاته في النحر واللبة وفي غير المقدور على ذكاته بسفح دمه فقوله : صلى الله عليه وسلم أنهر الدم بما شئت .

وقوله في المعراض : إذا خزق فكل وإذا لم يخزق فلا تأكل فلما كانت الذكاة منقسمة إلى هذين الوجهين وحكم الله بتحريم الميتة حكما عاما واستثنى منه المذكى بالصفة التي ذكرنا على لسان نبيه ولم تكن هذه الصفة موجودة في الجنين ، كان محرما بظاهر الآية واحتج من أباح ذلك بأخبار رويت من طرق ، منها عن أبي سعيد الخدري وأبي الدرداء وأبي أمامة وكعب بن مالك وابن عمر وأبي أيوب وأبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذكاة الجنين ذكاة أمه . وهذه الأخبار كلها واهية السند عند أهل النقل

كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وبيان ضعفها واضطرابها ؛ إذ ليس في شيء منها دلالة على موضع الخلاف ، [ ص: 138 ] وذلك لأن قوله : ذكاة الجنين ذكاة أمه يحتمل أن يريد به أن ذكاة أمه ذكاة له ، ويحتمل أن يريد به إيجاب تذكيته كما تذكى أمه وأنه لا يؤكل بغير ذكاة كقوله تعالى : وجنة عرضها السماوات والأرض معناه كعرض السموات والأرض ، وكقول القائل : " قولي قولك ومذهبي مذهبك " والمعنى قولي كقولك ومذهبي كمذهبك ، وقال الشاعر :

فعيناك عيناها وجيدك جيدها سوى أن عظم الساق منك دقيق

ومعناه : فعيناك كعينيها وجيدك كجيدها .

وإذا احتمل اللفظ لما وصفنا ولم يجز أن يكون المعنيان جميعا مرادين بالخبر لتنافيهما ؛ إذ كان في أحد المعنيين إيجاب تذكيته ، فإنه لا يؤكل غير مذكى في نفسه والآخر يبيح أكله بذكاة أمه ؛ إذ غير معتبر ذكاته في نفسه ، لم يجز لنا أن نخصص الآية به ووجب أن يكون محمولا على موافقة الآية ؛ إذ غير جائز تخصيص الآية بخبر الواحد واهي السند محتمل لموافقتها .

ويدل على أن مراده إيجاب تذكيته كما تذكى الأم اتفاق الجميع على أنه إذا خرج حيا وجب تذكيته ولم يجز الاقتصار على تذكية الأم ، فكان ذلك مرادا بالخبر فلم يجز أن يريد به مع ذلك ذكاة أمه ذكاة له لتنافيهما وتضادهما ؛ إذ كان في أحد المعنيين إيجاب تذكيته وفي الآخر نفيه فإن قال قائل : ما أنكرت أن نريد المعنيين في حالين بأن يجب ذكاته إذا خرج حيا ويقتصر على ذكاة أمه إذا خرج ميتا ؟ قيل له : ليس ذكر الحالين موجودا في الخبر ، وهو لفظ واحد ولا يجوز أن يريد به الأمرين جميعا ؛ لأن في إرادة أحد المعنيين إثبات زيادة حرف وليس في الآخر إثبات زيادة حرف ، وليس في الجائز أن يكون لفظ واحد فيه حرف وغير حرف ، فلذلك بطل قول من يقول بإرادتهما .

فإن قيل : إذا كان إرادة أحد المعنيين توجب زيادة حرف وهو الكاف وليس في الآخر زيادة ، فحمله على المعنى الذي لا يفتقر إلى زيادة أولى ؛ لأن حذف الحرف يوجب أن يكون اللفظ مجازا ، وإذا لم يكن فيه حذف شيء فهو حقيقة ، وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز قيل له : كون الحرف محذوفا أو غير محذوف لا يزيل عنه الاحتمال ؛ لأنه وإن كان مجازا فهو مفهوم اللفظ محتمل له ، ولا فرق بين الحقيقة والمجاز فيما هو من مقتضى اللفظ ، فلم يجز من أجل ذلك تخصيص الآية .

فإن قال قائل : ليس في اللفظ احتمال كونه غير مذكى بذكاة الأم ؛ لأنه لا يسمى جنينا إلا في حال كونه في بطن أمه ، ومتى باينها لا يسمى جنينا ، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أثبت له الذكاة في حال اتصاله بالأم ، وذلك يوجب أن يكون مذكى [ ص: 139 ] بتلك الحال في ذكاتها قيل له : الجواب عن هذا من وجهين :

أحدهما : أنه جائز أن يسمى بعد الانفصال جنينا لقرب عهده من الاجتنان في بطن أمه ، ولا يمتنع أحد من إطلاق القول بأن الجنين لو خرج حيا ذكي كما تذكى الأم فيطلق عليه اسم الجنين بعد الذكاة والانفصال .

وقال حمل بن مالك : كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط فألقت جنينا ميتا ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة فسماه جنينا بعد الإلقاء . وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم ذكاة الجنين ذكاة أمه أنه يذكى كما تذكى أمه إذا ألقته حيا .

والوجه الآخر : أنه لو كان مراده كونه مذكى وهو جنين لوجب أن يكون مذكى بذكاة الأم وإن خرج حيا ، وأن موته بعد خروجه لا يكسبه حكم الميتات كموته في بطن أمه ، فلما اتفق الجميع على أن خروجه حيا يمنع أن يكون ذكاة الأم ذكاته ثبت أنه لم يرد إثبات ذكاة الأم له في حال اتصاله بالأم فإن قال قائل : إنما أراد إثبات الحكم بحال خروجه ميتا قيل له : هذه دعواك لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فإن جاز أن تشترط فيه موته في حال كونه جنينا وإن لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم جاز لنا أن نشترط إيجاب ذكاته خرج حيا أو ميتا ، فمتى لم يوجد له ذكاة في نفسه لم يجز أكله .

وعلى أنا متى شرطنا إيجاب ذكاته في نفسه غير معتبر بأمه استعملنا الخبر على عمومه فجعلنا إباحة الأكل معلقة بوجود الذكاة فيه في حال كونه جنينا وبعد خروجه ، وحمل الخبر على ذلك أولى من الاقتصار به على ما ذكرت وإثبات ضمير فيه لا ذكر له في الخبر ولا دلالة عليه فإن قال قائل : حمل الخبر على ما ذكرت في إيجاب ذكاته إذا خرج يسقط فائدته ؛ لأن ذلك معلوم قبل وروده قيل له : ليس كذلك ، من قبل أنه أفاد أنه إن خرج حيا فقد وجبت ذكاته سواء مات في حال لم يقدر على ذكاته أو بقي ، وبطل بذلك قول من يقول إنه إن مات في وقت لا يقدر على ذكاته كان مذكى بذكاة الأم .

ومن جهة أخرى أنه حكم بإيجاب ذكاته وأنه إن خرج حيا لم يؤكل ؛ إذ هو غير مذكى ، فإن خرج حيا ذكي ، فأفاد أنه ميتة لا تؤكل ، وبطل به قول من يقول إنه لا يحتاج إلى ذكاة إذا خرج ميتا فإن احتج محتج بما ذكره زكريا بن يحيى الساجي عن بندار وإبراهيم بن محمد التميمي قالا : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الجنين يخرج ميتا فقال : إن شئتم فكلوه فإن ذكاته ذكاة أمه .

قيل له : قد روى هذا الحديث جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد ، ولم يذكروا فيه أنه خرج ميتا ، ورواه جماعة عن مجالد منهم هشيم وأبو [ ص: 140 ] أسامة وعيسى بن يونس ولم يذكروا فيه أنه خرج ميتا ، وإنما قالوا : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنين يكون في بطن الجزور أو البقرة أو الشاة ، فقال : كلوه فإن ذكاته ذكاة أمه ورواه أيضا ابن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك قال كل من يروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ممن قدمنا ذكره لم يذكر واحد منهم أنه خرج ميتا ، ولم تجئ هذه اللفظة إلا في رواية الساجي . ويشبه أن تكون هذه الزيادة من عنده فإنه غير مأمون ،

فإن احتج بما روي عن ابن عباس في قوله تعالى : أحلت لكم بهيمة الأنعام أنها الأجنة ، قيل له : إنه قد روي عن ابن عباس أنها جميع الأنعام ، وأن قوله تعالى : إلا ما يتلى عليكم الخنزير . وروي عن الحسن أن بهيمة الأنعام الشاة والبعير والبقرة . والأولى أن تكون على جميع الأنعام ولا تكون مقصورة على الجنين دون غيره ؛ لأنه تخصيص بلا دلالة . وأيضا فإن كان المراد الأجنة فهي على إباحتها بالذكاة كسائر الأنعام هي مباحة بشرط ذكاتها ، وكالجنين إذا خرج حيا هو مباح بشرط الذكاة .

وأيضا فإن قوله تعالى : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إذا كان المراد ما سيتلى عليكم في المستقبل مما هو محرم في الحال ، فهو مجمل لا يصح الاحتجاج به ؛ لأنه يكون بمنزلة ما لو قال : بعض الأنعام مباح وبعضه محظور .

ولم يبينه فلا يصح اعتبار عموم شيء منه فإن قال قائل : لما كان حكم الجنين حكم أمه فيمن ضرب بطن امرأة فماتت وألقت جنينا ميتا ولم ينفرد بحكم نفسه ، كان كذلك حكمه في الذكاة إذا مات في بطن أمه بموتها ، ولو خرج الولد حيا ثم مات انفرد بحكم نفسه دون أمه في إيجاب الغرة فيه ، فكذلك جنين الحيوان إذا مات بموت أمه وخرج ميتا أكل ، وإذا خرج حيا لم يؤكل حتى يذكى قيل له : هذا قياس فاسد ؛ لأنه قياس حكم على حكم غيره ، وإنما القياس الصحيح الجمع بين المسألتين في حكم واحد بعلة توجب رد إحداهما إلى الأخرى .

فأما في قياس مسألة على مسألة في حكمين مختلفين فإن ذلك ليس بقياس ، وقد علمنا أن المسألة التي استشهدت بها إنما حكمها ضمان الجنين في حال انفصاله منها حيا بعد موتها ، ومسألتنا إنما هي في إثبات ذكاة الأم له في حال منعه في حال أخرى ، فكيف يصح رد هذه إلى تلك ؟ ومع ذلك فلو ضرب بطن شاة أو غيرها فألقت جنينا ميتا لم يجب للجنين أرش ولا قيمة على الضارب وإنما يجب فيه نقصان الأم إن حدث بها نقصان . وإذا لم يكن لجنين البهائم بعد الانفصال حكم في حياة الأم وثبت ذلك لجنين [ ص: 141 ] المرأة .

فكيف يجوز قياس البهيمة على الإنسان وقد اختلف حكمهما في نفس ما ذكرت ؟

فإن قيل : لما كان الجنين في حال اتصاله بالأم في حكم عضو من أعضائها كان بمنزلة العضو منها إذا ذكيت الأم فيحل بذكاتها قيل له : غير جائز أن يكون بمنزلة عضو منها لجواز خروجه حيا تارة في حياة الأم وتارة بعد موتها ، والعضو لا يجوز أن يثبت له حكم الحياة بعد انفصاله منها ، فثبت أنه غير تابع لها في حال حياتها ولا بعد موتها .

فإن قيل : الواجب أن يتبع الجنين الأم في الذكاة كما يتبع الولد الأم في العتاق والاستيلاد والكتابة ونحوها قيل له : هذا غلط من الوجه الذي قدمنا في امتناع قياس حكم على حكم آخر . ومن جهة أخرى أنه غير جائز إذا أعتقت الأمة أن ينفصل الولد منها غير حر وهو تابع للأم في الأحكام التي ذكرت ، وجائز أن يذكي الأم ويخرج الولد حيا فلا يكون ذكاة الأم ذكاة له ، فعلمنا أنه لا يتبع الأم في الذكاة ؛ إذ لو تبعها في ذلك لما جاز أن ينفرد بعد ذكاة الأم بذكاة نفسه وأما مالك فإنه ذهب فيه إلى ما روي في حديث سليمان أبي عمران ، عن ابن البراء ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في أجنة الأنعام أن ذكاتها ذكاة أمها إذا أشعرت .

وروى الزهري عن ابن كعب بن مالك قال : " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : إذا أشعر الجنين فإن ذكاته ذكاة أمه " .

وروي عن علي وابن عمر من قولهما مثل ذلك . فيقال له : إذا ذكر الإشعار في هذا الخبر وأبهم في غيره من الأخبار التي هي أصح منه ، وهو خبر جابر وأبي سعيد وأبي الدرداء وأبي أمامة ، ولم يشترط فيها الإشعار ، فهلا سويت بينهما ؛ إذ لم تنف هذه الأخبار ما أوجبه خبر الإشعار ؛ إذ هما جميعا يوجبان حكما واحدا ، وإنما في أحدهما تخصيص ذلك الحكم من غير نفي لغيره وفي الآخر إبهامه وعمومه .

ولما اتفقنا جميعا على أنه إذا لم يشعر لم تعتبر فيه ذكاة الأم واعتبرت ذكاة نفسه وهو في هذه الحالة أقرب أن يكون بمنزلة أعضائها منه بعد مباينته لها ، وجب أن يكون ذلك حكمه إذا أشعر ويكون معنى قوله : ذكاته ذكاة أمه على أنه يذكى كما تذكى أمه ، ويقال لأصحاب الشافعي : إذا كان قوله : " ذكاته ذكاة أمه " إذا أشعر ، ينفي ذكاته بأمه إذا لم يشعر ، فهلا خصصت به الأخبار المبهمة ؛ أكان عندكم أن هذا الضرب من الدليل يخص به العموم بل هو أولى منه .

ومما يحتج به على الشافعي أيضا في ذلك ، قوله صلى الله عليه وسلم : أحلت لنا ميتتان ودمان ودلالة هذا الخبر يقتضي عنده تحريم سائر الميتات سواهما ، فيلزمه أن يحمل معنى .

قوله : ذكاة الجنين [ ص: 142 ] ذكاة أمه على موافقة دلالة هذا الخبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية